ذكر وصف الجنة .
[ و قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء الجنة فقال : لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر و حصباؤها اللؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران ] و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عمر مرفوعا أخرجه الطبراني فهذه أربعة أشياء : .
أحدها : بناء الجنة : و يحتمل أن المراد بنيان قصورها و دورها و يحتمل أن يراد بناء حائطها و سورها المحيط بها و هو أشبه و قد روي من وجه آخر [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا و هو أشبه : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و درجها الياقوت و اللؤلؤ قال : و كنا نتحدث : أن رضراض أنهارها اللؤلؤ و ترابها الزعفران ] و في مسند البزار [ عن أبي سعيد مرفوعا : خلق الله الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و ملاطها المسك فقال لها : تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك ] و مما يبين أن المراد ببناء الجنة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في الصحيحين [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من ذهب و آنيتهما و ما فيهما و جنتان من فضة و آنيتهما و ما فيهما ] و [ قد روي عن أبي موسى مرفوعا : جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من فضة لأصحاب اليمين ] و في الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنها جنان كثيرة ] و قد روي : [ أن بناء بعضها من در و ياقوت ] خرج ابن لأبي الدنيا [ من حديث أنس مرفوعا : خلق الله جنة عدن بيده لبنة بيضاء و لبنة من ياقوتة حمراء و لبنة من زبرجد خضراء ملاطها المسك و حصباؤها اللؤلؤ و حشيشها الزعفران ثم قال لها : انطقي قالت : قد أفلح المؤمنون قال و عزتي لا يجاورني فيك بخيل ] و روى عطية [ عن أبي سعيد قال : إن الله خلق جنة عدن من ياقوتة حمراء ثم قال لها : تزيني فتزينت ثم قال لها : تكلمي فقالت : طوبى لمن رضيت عنه ثم أطبقها و علقها بالعرش فهي تفتح في كل سحر فذلك برد السحر ] و عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء ثم اتخذ دونها أخرى و طبقهما بلؤلؤة واحدة لا تعلم الخلائق ما فيهما و هما اللتان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون و ذكر صفوان بن عمرو عن بعض مشايخه قال : الجنة مائة درجة أولها : درجة فضة أرضها فضة و مساكنها فضة و ترابها المسك و الثانية : ذهب و أرضها ذهب و آنيتها ذهب و ترابها المسك و الثالثة : لؤلؤ و أرضها لؤلؤ و آنيتها لؤلؤ و ترابها المسك و سبع و تسعون بعد ذلك ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم تلا { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } و في صحيح مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه : سأل موسى ربه قال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة فيقول : يا رب كيف و قد أخذ الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة : رضيت يا رب فيقال : هذا لك و عشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول : رضيت يا رب قال : فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال : و مصداقه في كتاب الله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] .
الثاني : ملاط الجنة : و أنه المسك الأذفر و قد تقدم مثل ذلك في غير حديث و الملاط : هو الطين و يقال : الطين الذي يبنى منه البنيان و الأذفر الخالص ففي الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ و إذا ترابها المسك ] و الجنابذ : مثل القباب و قد قيل : إنه أراد بترابها ما خالطه الماء و هو طينها كما في صحيح البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكوثر : طينه المسك الأذفر ] و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { ختامه مسك } : إن المراد بالختام : ما يبقى في سفل الشراب من التفل و هذا يدل على أن أنهارها تجري على المسك و لذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب كما يرسب الطين في آنية الماء في الدنيا .
الثالث : حصباء الجنة : و أنه اللؤلؤ و الياقوت و الحصباء : الحصي الصغار و هو الرضراض و في المسند [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر الكوثر : أن رضراضه اللؤلؤ ] و في رواية : [ حصباؤه اللؤلؤ ] و في الترمذي [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن مجراه على الدر و الياقوت ] و في الطبراني [ من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك الأبيض و رضراضه الجوهر و حصباؤه اللؤلؤ ] و في المسند [ من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك و رضراضه التوم ] و التوم : الجوهر و الحال : الطين قال أبو العالية : قرأت في بعض الكتب : يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر تجري عليها أنهار الجنة فيها الدر و اللؤلؤ و الياقوت و سورها زبرجد أخضر متدليا عليها أشجار الجنة بثمارها .
الرابع : تراب الجنة : و أنه الزعفران و قد سبق في رواية أخرى : [ الزعفران و الورس ] و قد قيل : إن المراد بالتراب ههنا : تربة الأرض التي لا ماء عليها فأما ما كان عليه ماء فإنه مسك كما سبق و سبق أيضا في بعض الروايات حشيشها الزعفران و هو نبات أرضها و ترابها فأما حديث ترابها المسك : فقد قيل : إنه محمول على تراب يخالطه الماء كما تقدم و قيل : إن المراد : أن ريح ترابها ريح مسك و لونه لون الزعفران و يشهد لهذا حديث الكوثر : [ إن حاله المسك الأبيض ] فريحه ريح المسك و لونه مشرق لا يشبه لون مسك الدنيا بل هو أبيض و قد يكون منه أبيض و منه أصفر و الله أعلم و في صحيح مسلم [ من حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل ابن الصياد عن تربة الجنة : فقال : درمكة بيضاء مسك خالص فصدقه النبي صلى الله عليه و سلم ] و رواية : أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه و سلم و صدقه و في المسند و الترمذي [ عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تربة الجنة درمكة ثم سأل اليهود ؟ فقالوا : خبزة فقال : الخبز من الدرمك ] و التي تجتمع به هذه الأحاديث كلها أن تربة الجنة في لونها بيضاء و منها ما يشبه لون الزعفران في بهجته و إشراقه و ريحها ريح المسك الأذفر الخالص و طعمها طعم الخبز الحواري الخالص و قد يختص هذا بالأبيض منها فقد اجتمعت لها الفضائل كلها لا حرمنا الله ذلك برحمته و كرمه .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ] إشارة إلى بقاء الجنة و بقاء جميع ما فيها من النعيم و إن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبدا و ملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبدا و قد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة كقوله : { و جنات لهم فيها نعيم مقيم } و قوله تعالى : { أكلها دائم و ظلها } و قوله تعالى : { خالدين فيها أبدا } في مواضع كثيرة و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه و لا يفنى شبابه ] و فيه أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد أن لكم أن تنعموا و لا تبأسوا أبدا و أن لكم أن تصحوا و تسقموا أبدا و أن لكم أن تشبوا و لا تهرموا أبدا و نودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ] و في رواية لغيره زيادة : [ و أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ] و في الترمذي مرفوعا : [ أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم ] و [ عن أبي سعيد مرفوعا : يدخل أهل الجنة أبناء ثلاثين لا يزيدون عليها أبدا ] و من حديث علي مرفوعا : [ إن في الجنة مجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد و نحن الناعمات فلا نبأس و نحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا و كنا له ] و خرج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : [ إن مما يتغنين به الحور العين : نحن الخالدات فلا نمتنه نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه ] و من حديث أم سلمة مرفوعا : [ أن نساء أهل الجنة يقلن : نحن الخالدات فلا نموت و نحن الناعمات فلا نبأس أبدا و نحن المقيمات فلا نظعن أبدا و نحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له و كان لنا ] و فيما ذكره صلى الله عليه و سلم في صفة من يدخل الجنة تعريض بذم الدنيا الفانية فإنه من يدخلها و إن نعم فيها فإنه يبأس و من أقام فيها فإنه يموت و لا يخلد و يفنى شبابهم و تبلى ثيابهم و تبلى أجسامهم و في القرآن نظير هذا و هذا التعريض بذم الدنيا و فنائها مع مدح الآخرة و ذكر كمالها و بقائها كما قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من الله و الله بصير بالعباد } و قال الله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } الآية ثم قال : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } و قال الله تعالى : { و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة } الآية و قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا * المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا } و قال الله تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } إلى قوله : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض أعدت للذين آمنوا بالله و رسله } و قال الله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا * و الآخرة خير و أبقى } و قال الله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } و قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار } و المتاع : هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع و يفنى فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها و تقلب أحوالها و هو أدل دليل على انقضائها و زوالها فتتبدل صحتها بالسقم و وجودها بالعدم و شبيبتها بالهرم و نعيمها بالبؤس و حياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس و عمارتها بالخراب و اجتماعها بفرقة الأحباب و كل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف في يوم عيد و قد نظر إلى كثرة الناس و زينة لباسهم : هل ترون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : يا دار تخربين و يموت سكانك و في الحديث : [ عجبا لمن رأى الدنيا و سرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ] قال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا و قال مطرف : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيما لا موت فيه و قال يونس بن عبيد : ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل و لا مال و قال يزيد الهاشمي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش و أمنوا الاسقام فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام عيوب الدنيا بادية و هي تغيرها و مواعظها منادية لكن حبها يعمي و يصم فلا يسمع محبها نداءها و لا يرى كشفها للغير و إيذاءها .
( قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع ) .
( كم واثق بالعمر أفنيته ... و جامع بددت ما يجمع ) .
كم قد تبدل نعيمها بالضر و البؤس كم أصبح من هو واثق بملكها و أمسى و هو منها قنوط بؤوس قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا : أصبحنا و ما في الأرض أحد إلا و هو يحسدنا و يخشانا و أمسينا و ما في العرب أحد إلا و هو يرحمنا دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه و قالت : هجم علي مثل هذا العيد و على رأسي أربعمائة وصيفة قائمة و أنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السرف في إنفاق المال حتى أنها زوجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد و هي تسأل الناس اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح و قائلة تقول في غنائها : .
( ألا يا دار لا يدخلك حزن ... و لا يزري بصاحبك الزمان ) .
ثم اجتاز بها عن قريب و إذا الباب مسود و في الدار بكاء و صراخ فسأل عنهم ؟ فقيل : مات رب الدار فطرق الباب و قال : سمعت من هذه الدار قائلة تقول : كذا و كذا فبكت امرأة و قالت : يا عبد الله إن الله يغير و لا يتغير و الموت غاية كل مخلوق فانصرف من عندهم باكيا بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته وفدا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب عنده قصور مشيدة و هناك مواش عظيمة و رقيق كثير و رأى نسوة كثيرة مجتمعات في عرس لهن و جارية بيدها دف تقول : .
( معاشر الحساد موتوا كمدا ... كذا نكون ما بقينا أبدا ) .
فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيد الماء و اعتذر إليهم باشتغاله بالعرس فدعوا له و ارتحلوا ثم إن بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن فمروا بالقرب من ذلك الماء فعدلوا إليه لينزلوا فيه فإذا القصور المشيدة قد خربت كلها و ليس هناك ماء و لا أنيس و لم يبق من تلك الآثار إلا تل خراب فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التل فسألوها عن أهل ذلك الماء فقالت : هلكوا كلهم فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت : كانت العروس أختي و أنا كنت صاحبة الدف فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت و قالت : عزيز علي أن أفارق هذه العظام البالية حتى أصير إلى ما صارت إليه فبينما هي تحدثهم إذ مالت فنزعت نزعا يسيرا ثم ماتت فدفنوها و انطلقوا حمل إلى سليمان بن عبد الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام فأدخلت على ابنه أيوب و هو ولي عهده فدخل عليه الرسول بها في داره فدخل إلى دار بيضاء و فيها غلمان عليهم ثياب بياض و حليتهم فضة ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان عليهم ثياب صفر و حليتهم الذهب ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم ثياب خضر و حليتهم الزمرد ثم دخل على أيوب و هو و جاريته على سرير فلم يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما فوضع المسك بين يديه فانتهبه كله الغلمان ثم خرج الرسول فغاب بضعة عشر يوما ثم رجع فمر بدار أيوب و هي بلاقع فسأل عنهم ؟ فقيل له : أصابهم الطاعون فماتوا كان يزيد بن عبد الملك ـ و هو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ـ له جارية تسمى حبابة و كان شديد الشغف بها و لم يقدر على تحصيلها إلا بعد جهد شديد فلما وصلت إليه خلى بها يوما في بستان و قد طار عقله فرحا بها فبينما هو يلاعبها و يضاحكها إذ رماها بحبة رمان أو حبة عنب و هي تضحك فدخلت في فيها فشرقت بها فماتت فما سمحت نفسه بدفنها حتى أراحت فعوتب على ذلك فدفنها و يقال : إنه نبشها بعد دفنها و يروى : إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها و مقاصيرها و معها جارية لها فتمثلت الجارية ببيت : .
( كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا ) .
فصاح و خر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى هوي من الليل ثم أفاق فبكى بقية ليلته و من الغد فدخلوا عليه فوجدوه ميتا قال بعض السلف : ما من حبرة إلا يتبعها عبرة * و ما كان ضحك في الدنيا إلا كان بعده بكاء * من عرف الدنيا حق معرفتها حقرها و أبغضها كما قيل : .
( أما لو بيعت الدنيا بفلس ... أنفت لعاقل أن يشتريها ) .
و من عرف الآخرة و عظمتها و رغب فيها عباد الله هلموا إلى دار لا يموت سكانها و لا يخرب بنيانها و لايهرم شبابها و لا يتغير حسنها و إحسانها هواؤها النسيم و ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين و يتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين : { دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } قال عون بن عبد الله بن عتبة : بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة فتنوق في بنائها ثم صنع طعاما و دعا الناس إليه و أقعد على أبوابها ناسا يسألون كل من خرج هل رأيتم عيبا ؟ فيقولون لا حتى جاء في آخر الناس قوم عليهم أكسية فسألوهم : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا : عيبين فأدخلوهم على الملك فقال : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا عيبين قال : و ما هما ؟ قالوا : تخرب و يموت صاحبها قال : فتعلمون دار لا تخرب و لا يموت صاحبها ؟ قالوا نعم فدعوه فاستجاب لهم و انخلع من ملكه و تعبد معهم فحدث عون بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعا حتى هم أن يخلع نفسه من الملك فأتاه ابن عمه مسلمة فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد فوالله لئن فعلت ليقتتلن بأسيافهم قال : ويحك يا مسلمة حملت ما لا أطيق و جعل يرددها و مسلمة يناشده حتى سكن
من كتاب لطائف المعارف
[ و قوله صلى الله عليه و سلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء الجنة فقال : لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر و حصباؤها اللؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران ] و قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث ابن عمر مرفوعا أخرجه الطبراني فهذه أربعة أشياء : .
أحدها : بناء الجنة : و يحتمل أن المراد بنيان قصورها و دورها و يحتمل أن يراد بناء حائطها و سورها المحيط بها و هو أشبه و قد روي من وجه آخر [ عن أبي هريرة مرفوعا و موقوفا و هو أشبه : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و درجها الياقوت و اللؤلؤ قال : و كنا نتحدث : أن رضراض أنهارها اللؤلؤ و ترابها الزعفران ] و في مسند البزار [ عن أبي سعيد مرفوعا : خلق الله الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و ملاطها المسك فقال لها : تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك ] و مما يبين أن المراد ببناء الجنة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في الصحيحين [ عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من ذهب و آنيتهما و ما فيهما و جنتان من فضة و آنيتهما و ما فيهما ] و [ قد روي عن أبي موسى مرفوعا : جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من فضة لأصحاب اليمين ] و في الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنها جنان كثيرة ] و قد روي : [ أن بناء بعضها من در و ياقوت ] خرج ابن لأبي الدنيا [ من حديث أنس مرفوعا : خلق الله جنة عدن بيده لبنة بيضاء و لبنة من ياقوتة حمراء و لبنة من زبرجد خضراء ملاطها المسك و حصباؤها اللؤلؤ و حشيشها الزعفران ثم قال لها : انطقي قالت : قد أفلح المؤمنون قال و عزتي لا يجاورني فيك بخيل ] و روى عطية [ عن أبي سعيد قال : إن الله خلق جنة عدن من ياقوتة حمراء ثم قال لها : تزيني فتزينت ثم قال لها : تكلمي فقالت : طوبى لمن رضيت عنه ثم أطبقها و علقها بالعرش فهي تفتح في كل سحر فذلك برد السحر ] و عن ابن عباس قال : كان عرش الله على الماء ثم اتخذ دونها أخرى و طبقهما بلؤلؤة واحدة لا تعلم الخلائق ما فيهما و هما اللتان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون و ذكر صفوان بن عمرو عن بعض مشايخه قال : الجنة مائة درجة أولها : درجة فضة أرضها فضة و مساكنها فضة و ترابها المسك و الثانية : ذهب و أرضها ذهب و آنيتها ذهب و ترابها المسك و الثالثة : لؤلؤ و أرضها لؤلؤ و آنيتها لؤلؤ و ترابها المسك و سبع و تسعون بعد ذلك ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم تلا { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } و في صحيح مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه : سأل موسى ربه قال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة فيقول : يا رب كيف و قد أخذ الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول رضيت يا رب فيقول لك ذلك و مثله و مثله و مثله فقال في الخامسة : رضيت يا رب فيقال : هذا لك و عشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول : رضيت يا رب قال : فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال : و مصداقه في كتاب الله : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] .
الثاني : ملاط الجنة : و أنه المسك الأذفر و قد تقدم مثل ذلك في غير حديث و الملاط : هو الطين و يقال : الطين الذي يبنى منه البنيان و الأذفر الخالص ففي الصحيحين [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ و إذا ترابها المسك ] و الجنابذ : مثل القباب و قد قيل : إنه أراد بترابها ما خالطه الماء و هو طينها كما في صحيح البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في الكوثر : طينه المسك الأذفر ] و قد قيل في تأويل قوله تعالى : { ختامه مسك } : إن المراد بالختام : ما يبقى في سفل الشراب من التفل و هذا يدل على أن أنهارها تجري على المسك و لذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب كما يرسب الطين في آنية الماء في الدنيا .
الثالث : حصباء الجنة : و أنه اللؤلؤ و الياقوت و الحصباء : الحصي الصغار و هو الرضراض و في المسند [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر الكوثر : أن رضراضه اللؤلؤ ] و في رواية : [ حصباؤه اللؤلؤ ] و في الترمذي [ من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن مجراه على الدر و الياقوت ] و في الطبراني [ من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك الأبيض و رضراضه الجوهر و حصباؤه اللؤلؤ ] و في المسند [ من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حاله المسك و رضراضه التوم ] و التوم : الجوهر و الحال : الطين قال أبو العالية : قرأت في بعض الكتب : يا معشر الربانيين من أمة محمد انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر تجري عليها أنهار الجنة فيها الدر و اللؤلؤ و الياقوت و سورها زبرجد أخضر متدليا عليها أشجار الجنة بثمارها .
الرابع : تراب الجنة : و أنه الزعفران و قد سبق في رواية أخرى : [ الزعفران و الورس ] و قد قيل : إن المراد بالتراب ههنا : تربة الأرض التي لا ماء عليها فأما ما كان عليه ماء فإنه مسك كما سبق و سبق أيضا في بعض الروايات حشيشها الزعفران و هو نبات أرضها و ترابها فأما حديث ترابها المسك : فقد قيل : إنه محمول على تراب يخالطه الماء كما تقدم و قيل : إن المراد : أن ريح ترابها ريح مسك و لونه لون الزعفران و يشهد لهذا حديث الكوثر : [ إن حاله المسك الأبيض ] فريحه ريح المسك و لونه مشرق لا يشبه لون مسك الدنيا بل هو أبيض و قد يكون منه أبيض و منه أصفر و الله أعلم و في صحيح مسلم [ من حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل ابن الصياد عن تربة الجنة : فقال : درمكة بيضاء مسك خالص فصدقه النبي صلى الله عليه و سلم ] و رواية : أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه و سلم و صدقه و في المسند و الترمذي [ عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تربة الجنة درمكة ثم سأل اليهود ؟ فقالوا : خبزة فقال : الخبز من الدرمك ] و التي تجتمع به هذه الأحاديث كلها أن تربة الجنة في لونها بيضاء و منها ما يشبه لون الزعفران في بهجته و إشراقه و ريحها ريح المسك الأذفر الخالص و طعمها طعم الخبز الحواري الخالص و قد يختص هذا بالأبيض منها فقد اجتمعت لها الفضائل كلها لا حرمنا الله ذلك برحمته و كرمه .
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من يدخلها ينعم لا يبأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ] إشارة إلى بقاء الجنة و بقاء جميع ما فيها من النعيم و إن صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغير أبدا و ملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبدا و قد دل القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة كقوله : { و جنات لهم فيها نعيم مقيم } و قوله تعالى : { أكلها دائم و ظلها } و قوله تعالى : { خالدين فيها أبدا } في مواضع كثيرة و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه و لا يفنى شبابه ] و فيه أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد أن لكم أن تنعموا و لا تبأسوا أبدا و أن لكم أن تصحوا و تسقموا أبدا و أن لكم أن تشبوا و لا تهرموا أبدا و نودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ] و في رواية لغيره زيادة : [ و أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ] و في الترمذي مرفوعا : [ أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم ] و [ عن أبي سعيد مرفوعا : يدخل أهل الجنة أبناء ثلاثين لا يزيدون عليها أبدا ] و من حديث علي مرفوعا : [ إن في الجنة مجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد و نحن الناعمات فلا نبأس و نحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا و كنا له ] و خرج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : [ إن مما يتغنين به الحور العين : نحن الخالدات فلا نمتنه نحن الآمنات فلا نخفنه نحن المقيمات فلا نظعنه ] و من حديث أم سلمة مرفوعا : [ أن نساء أهل الجنة يقلن : نحن الخالدات فلا نموت و نحن الناعمات فلا نبأس أبدا و نحن المقيمات فلا نظعن أبدا و نحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له و كان لنا ] و فيما ذكره صلى الله عليه و سلم في صفة من يدخل الجنة تعريض بذم الدنيا الفانية فإنه من يدخلها و إن نعم فيها فإنه يبأس و من أقام فيها فإنه يموت و لا يخلد و يفنى شبابهم و تبلى ثيابهم و تبلى أجسامهم و في القرآن نظير هذا و هذا التعريض بذم الدنيا و فنائها مع مدح الآخرة و ذكر كمالها و بقائها كما قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهرة و رضوان من الله و الله بصير بالعباد } و قال الله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } الآية ثم قال : { و الله يدعو إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } و قال الله تعالى : { و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة } الآية و قال الله تعالى : { و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كان الله على كل شيء مقتدرا * المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا } و قال الله تعالى : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته } إلى قوله : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض أعدت للذين آمنوا بالله و رسله } و قال الله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا * و الآخرة خير و أبقى } و قال الله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } و قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه : { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار } و المتاع : هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع و يفنى فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها و تقلب أحوالها و هو أدل دليل على انقضائها و زوالها فتتبدل صحتها بالسقم و وجودها بالعدم و شبيبتها بالهرم و نعيمها بالبؤس و حياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس و عمارتها بالخراب و اجتماعها بفرقة الأحباب و كل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف في يوم عيد و قد نظر إلى كثرة الناس و زينة لباسهم : هل ترون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : يا دار تخربين و يموت سكانك و في الحديث : [ عجبا لمن رأى الدنيا و سرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ] قال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا و قال مطرف : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيما لا موت فيه و قال يونس بن عبيد : ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل و لا مال و قال يزيد الهاشمي : أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش و أمنوا الاسقام فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام عيوب الدنيا بادية و هي تغيرها و مواعظها منادية لكن حبها يعمي و يصم فلا يسمع محبها نداءها و لا يرى كشفها للغير و إيذاءها .
( قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع ) .
( كم واثق بالعمر أفنيته ... و جامع بددت ما يجمع ) .
كم قد تبدل نعيمها بالضر و البؤس كم أصبح من هو واثق بملكها و أمسى و هو منها قنوط بؤوس قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا : أصبحنا و ما في الأرض أحد إلا و هو يحسدنا و يخشانا و أمسينا و ما في العرب أحد إلا و هو يرحمنا دخلت أم جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه و قالت : هجم علي مثل هذا العيد و على رأسي أربعمائة وصيفة قائمة و أنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السرف في إنفاق المال حتى أنها زوجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار فما مضى إلا قليل حتى رؤيت في سوق من أسواق بغداد و هي تسأل الناس اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح و قائلة تقول في غنائها : .
( ألا يا دار لا يدخلك حزن ... و لا يزري بصاحبك الزمان ) .
ثم اجتاز بها عن قريب و إذا الباب مسود و في الدار بكاء و صراخ فسأل عنهم ؟ فقيل : مات رب الدار فطرق الباب و قال : سمعت من هذه الدار قائلة تقول : كذا و كذا فبكت امرأة و قالت : يا عبد الله إن الله يغير و لا يتغير و الموت غاية كل مخلوق فانصرف من عندهم باكيا بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته وفدا إلى اليمن فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب عنده قصور مشيدة و هناك مواش عظيمة و رقيق كثير و رأى نسوة كثيرة مجتمعات في عرس لهن و جارية بيدها دف تقول : .
( معاشر الحساد موتوا كمدا ... كذا نكون ما بقينا أبدا ) .
فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيد الماء و اعتذر إليهم باشتغاله بالعرس فدعوا له و ارتحلوا ثم إن بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن فمروا بالقرب من ذلك الماء فعدلوا إليه لينزلوا فيه فإذا القصور المشيدة قد خربت كلها و ليس هناك ماء و لا أنيس و لم يبق من تلك الآثار إلا تل خراب فذهبوا إليه فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التل فسألوها عن أهل ذلك الماء فقالت : هلكوا كلهم فسألوها عن ذلك العرس المتقدم فقالت : كانت العروس أختي و أنا كنت صاحبة الدف فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت و قالت : عزيز علي أن أفارق هذه العظام البالية حتى أصير إلى ما صارت إليه فبينما هي تحدثهم إذ مالت فنزعت نزعا يسيرا ثم ماتت فدفنوها و انطلقوا حمل إلى سليمان بن عبد الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام فأدخلت على ابنه أيوب و هو ولي عهده فدخل عليه الرسول بها في داره فدخل إلى دار بيضاء و فيها غلمان عليهم ثياب بياض و حليتهم فضة ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان عليهم ثياب صفر و حليتهم الذهب ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم ثياب خضر و حليتهم الزمرد ثم دخل على أيوب و هو و جاريته على سرير فلم يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما فوضع المسك بين يديه فانتهبه كله الغلمان ثم خرج الرسول فغاب بضعة عشر يوما ثم رجع فمر بدار أيوب و هي بلاقع فسأل عنهم ؟ فقيل له : أصابهم الطاعون فماتوا كان يزيد بن عبد الملك ـ و هو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز ـ له جارية تسمى حبابة و كان شديد الشغف بها و لم يقدر على تحصيلها إلا بعد جهد شديد فلما وصلت إليه خلى بها يوما في بستان و قد طار عقله فرحا بها فبينما هو يلاعبها و يضاحكها إذ رماها بحبة رمان أو حبة عنب و هي تضحك فدخلت في فيها فشرقت بها فماتت فما سمحت نفسه بدفنها حتى أراحت فعوتب على ذلك فدفنها و يقال : إنه نبشها بعد دفنها و يروى : إنه دخل بعد موتها إلى خزائنها و مقاصيرها و معها جارية لها فتمثلت الجارية ببيت : .
( كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا ) .
فصاح و خر مغشيا عليه فلم يفق إلى أن مضى هوي من الليل ثم أفاق فبكى بقية ليلته و من الغد فدخلوا عليه فوجدوه ميتا قال بعض السلف : ما من حبرة إلا يتبعها عبرة * و ما كان ضحك في الدنيا إلا كان بعده بكاء * من عرف الدنيا حق معرفتها حقرها و أبغضها كما قيل : .
( أما لو بيعت الدنيا بفلس ... أنفت لعاقل أن يشتريها ) .
و من عرف الآخرة و عظمتها و رغب فيها عباد الله هلموا إلى دار لا يموت سكانها و لا يخرب بنيانها و لايهرم شبابها و لا يتغير حسنها و إحسانها هواؤها النسيم و ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين و يتمتعون بالنظر إلى وجهه كل حين : { دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } قال عون بن عبد الله بن عتبة : بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة فتنوق في بنائها ثم صنع طعاما و دعا الناس إليه و أقعد على أبوابها ناسا يسألون كل من خرج هل رأيتم عيبا ؟ فيقولون لا حتى جاء في آخر الناس قوم عليهم أكسية فسألوهم : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا : عيبين فأدخلوهم على الملك فقال : هل رأيتم عيبا ؟ فقالوا عيبين قال : و ما هما ؟ قالوا : تخرب و يموت صاحبها قال : فتعلمون دار لا تخرب و لا يموت صاحبها ؟ قالوا نعم فدعوه فاستجاب لهم و انخلع من ملكه و تعبد معهم فحدث عون بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعا حتى هم أن يخلع نفسه من الملك فأتاه ابن عمه مسلمة فقال : اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد فوالله لئن فعلت ليقتتلن بأسيافهم قال : ويحك يا مسلمة حملت ما لا أطيق و جعل يرددها و مسلمة يناشده حتى سكن
من كتاب لطائف المعارف