إن من ينظر نظرة تأمل وتمحيص في هذا الكون الواسع العظيم من صغيره إلى كبيره يجده على غاية من الإتقان والإبداع، كل ما فيه مسخَّر خادم لمخلوق واحد في جوف هذا العالم اللا متناهي بالنسبة له، ألا وهو الإنسان، فالإنسان كما نراه هو السيد المتصرِّف، يكشف أسرار الطبيعة ويسبر أغوارها ليستطيع إلى حد ما تسخيرها لرغباته وأغراضه كما أننا نلاحظ أن المخلوق الوحيد المتطور هو الذي يحمل فكراً جباراً يحلِّل ويركِّب فيعود بنتائج شتى.
فلا مخلوق سواه يستطيع الاستقراء والاستنتاج والتطور، بل على العكس نرى جميع ما حولنا من مخلوقات تقوم بوظائفها التي خلقت لأجلها وتتقيد بتصرفات ضمن غرائز فطرية أزلية طبعت على صفحات نفوسها، فمثلاً لا نجد مطلقاً ثعلباً ينحو منحاً إنسانياً في معاملته للدجاج، وليس ثمة هرة تربطها بالفأر علاقات الود والصداقة، فالغريزة تسيطر على الهرة لافتراس الفأر دون أي تأخر أو تراجع أو نظرة صغيرة في هذا الموضوع.

كما أننا لا نرى ذئباً يرعى قطيعاً من الخرفان، بل يستحيل حصول ذلك إلاَّ عند كلب وفي، فجميع هذه المسالك لتلك الحيوانات لا تتبدل ولا تتحول ولا تتطور خلال الزمن مهما طال، فلم نرَ على سبيل المثال دجاجة تسبح في بركة ماء، بل هذا عمل البط منذ كان نقفاً لتوه قد خرج من بيضته، تراه يسبح بمهارة وإتقان عجيب.

بالمقابل ترى البط عاجزاً عن القيام بما تقوم به الحيوانات الأخرى كالافتراس مثلاً والصيد أو الحراسة. كما أن هذه الحيوانات التي تقوم بهذه الأعمال عاجزة على أن تعمل ما تعمله النحلة من هندسة خليتها وجمع العسل من الأزهار...

نعم إن كل مخلوق مسير لما خلق له وضمن نظام غريزي يعمل ولا مجال للإبداع أو الابتكار، بل روتين وتكرار يقوم به طوال حياته دون تعديل أو تغيير.

إنها الإلهامات الإلهية التي سخرت جميع ما في الكون لخدمة مخلوق مكرم على جميع المخلوقات وهو الإنسان، فالشمس تشرق وتغيب بوقت معين في كل سنة ولا تحيد عن مسارها قيد أنملة، كذلك تسعى جاهدة لخدمة هذا الإنسان.

مما سبق من تأملات نجد أن الكون على غاية من الدقة والنظام يسير ضمن قوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، حركة هادفة، خيرة، متعاونة، ومتكاملة تسعى ضمن مسارات دائرية تقريباً، تبدأ من حيث تنتهي، فالنبات والشمس والقمر وغيرها تعود من حيث بدأت، ويبقى المصير لغزاً لكنه ليس مبهماً ولا مكتّماً، بل يُضّل به كثيراً، ويهدي به كثيراً.

ولعلَّك تقول: ما المراد من كلمة: {..يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً..}؟

هذه النقطة الهامة كانت موضع أخذ ورد في قرون مضت، وقد ضلَّ بسبب عدم فهمها أناس كثيرون، وتزندق آخرون.

فأما (الجبريـة) فقد ادَّعوا: أن الله تعالى قدَّر على الإنسان الوقوع في الأعمال الخيِّرة والشريرة وأن العبد مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار والثواب والعقاب جبر.
وما مثل الإنسان في كونه مجبوراً على الكفر والمعصية إلا كمثل الريح تهب على العشب (الحشيش) فتقلِّبه يميناً وشمالاً، أو كالورقة تذهب بها الرياح حيث تشاء. قالوا ذلك ليتوصلوا من هذا الطريق إلى تبرير أعمالهم المنحطة والانغماس في شهواتهم الدنيئة وادَّعوا أن لا ذنب لهم ما دام الله تعالى هو خالق الأعمال واستندوا إلى آيات كثيرة ضلُّوا عن فهمها الصحيح فاستشهدوا بها خطأً وفسَّروها تفسيراً باطلاً.

وأما الآخرون وهم (المعتزلـة) فقالوا: إن الله لا يحب الشر والفساد، وقد أرادوا أن ينزِّهوا الله تعالى عن الظلم فزعموا أن الإنسان هو خالق أعماله، والرب منزَّه عن أن يضاف إليه شر أو ظلم وفعل وذلك هو كفر ومعصية. فالعبد عندهم مستطيع باستطاعة نفسه، وأفعاله مخلوقة من جهته لا يحتاج إلى الاستطاعة من الله وقد وضع الله تعالى فيه القوة وهو مطلق في استعمالها وهو والحالة هذه مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً.

وأنت ترى من خلال هذين الرأيين ضلال كل من الفريقين:

فالجبرية وقعوا في الضلال، إذ زعموا أن العبد مُجبر على الوقوع في الشر، وأنه لا حيلة له والأقدار جارية عليه فهو مكره على تنفيذ هذه الأقدار وليس له في رد ذلك قدرة ولا استطاعة ولا اختيار.

وردّاً على الجبريـة نقول:

لقد نفى تعالى ذلك نفياً قاطعاً بقوله الكريم: {..لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..} سورة البقرة (256). فلم يُكره أحداً على الطاعة كما لم يُكره أحداً على المعصية، وقولهم هذا محض افتراء لا أساس له من الصحة.

وإذا كان الإنسان كما يقول هؤلاء مجبراً على المعصية، ومستحقاً بالتالي على العذاب والعقاب، فلا ريب أن ذلك من الله تعالى محض الظلم والجور، والله تعالى منزَّه عن الظلم والجور، والاعتقاد بمثل تلك الاعتقادات الفاسدة كفر وضلال لأن الذي يسيء الظن بالله وينسب الظلم إلى الله كافر وهو لا يختلف عن إبليس في شيء، إذ قال: {...رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ...} سورة الحجر (39).

فقد اعترف إبليس بربِّه ولكنه نسب الظلم إلى الله وظنَّ أن الله تعالى هو الذي أغواه، كما لا يختلف معتقد هذه الاعتقادات الباطلة عن المشركين في شيء. قال تعالى:{...سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}.

فردَّ عليهم تعالى بقوله الكريم: {..كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}. سورة الأنعام (148).

وكذلك (فالمعتزلـة) ليسوا على شيء من الصواب فيما زعموا، إذ قالوا: أن العبد بما وضع الله تعالى فيه من القوة قادر وخالق لأفعاله ولا يحتاج إلى الاستطاعة والقوة من الله.

ورداً على المعتزلة نقول:

إذا كان الله تعالى قد وضع في العبد القوة وجعله قادراً على خلْق أعماله فمعنى ذلك أن الله تعالى ترك القوي يعتدي على الضعيف، ثم إن الله تعالى كيف جعل في الناس قوياً وضعيفاً وبهذا جعل الناس يتسلَّطون على بعضهم بعضاً، أليس في هذا الاعتقاد أيضاً ما فيه من نسبة الظلم إلى الله، وكذلك فقد جعل هؤلاء المعتزلة للإنسان حولاً وقوة ولم يجعلوا مع الله إلهاً آخر فقط، بل جعلوا كل مخلوق قادراً وخالقاً. ولو أنهم أدركوا معنى لا إله إلا الله وأنه ليس لأحد في هذا الكون فعل وقوة إلا بالله لما وقعوا في هذا الشرك والضلال البعيد، ومع أنه لا حول ولا قوة إلا بالله وهم يزعمون أنهم أهل العدل والتوحيد.

والآن وبعد أن بيَّنا طرفاً من اعتقادات أهل الضلال والانحراف الذين زاغت قلوبهم عن الحق بسبب عدم معرفتها بالله وانحرافها عن الطريق التي أرشدنا الله تعالى إليها في الوصول إلى الإيمان نستطيع أن نورد اعتقادات أهل السنة والجماعة وأن نفصِّل في تلك النواحي التي أشاروا إليها تفصيلاً يجعل الإنسان يفهم ما ورد في كتاب الله تعالى بما يتوافق مع العدل الإلهي والتوحيد الصحيح قولهم:

أن العبد مخيَّر يستطيع أن يختار ما يشاء ولهذا المعنى يستحق العقوبة أو الثواب، فمتى وُجِدَ من العبد العزم والقصد والاكتساب يحصل له من الله تعالى القوة والاستطاعة على الأعمال.

وهكذا فأنت ترى من خلال هذا الرأي الصحيح أن العبد مطلق في اختياره غير مجبر على الوقوع في فعل من الأفعال. أما الاستطاعة والقدرة فإنما هي بيد الله تعالى وحده وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

ولعمري ذلك هو التوحيد الصحيح الذي تفيده حقيقة (لا إله إلا الله).

وقد فصَّل بعض العلماء في هذه الناحية فقالوا أن للعبد جزءاً اختيارياً، والحقيقة أن للعبد الحريّة كلها والإطلاق في الاختيار ولكن على المستحق، ونفصِّل لك نحن هذا المعنى فنقول:

إذا وقع اختيار العبد المؤمن على القيام بعمل من أعمال البر والإحسان فلا ريب أن اختياره هذا يُنفِّذه الله تعالى له، ولكن العدالة الإلهية تقضي بأن يكون التنفيذ على شخص استحق هذا البر والإحسان. ولذلك يسوق الله تعالى المحسن للمحسن والطيِّب للطيِّب وينال كل امرئ بمقدار ما يستحق من العطاء.

وإذا وقع اختيار المعرض على القيام بعمل من أعمال الأذى والعدوان فلا ريب أن هذه الشهوة الخبيثة التي استقرَّت في نفسه بسبب إعراضه عن الله ودفعته إلى هذا الاختيار لا يكون تنفيذها إلاَّ على شخص استحق بسابق ما اكتسبت يده أن يقع عليه هذا الأذى والعدوان، فيُساق الظالم لنفسه للظالم لنفسه أيضاً:{...وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضَاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} سورة الأنعام (129).

والخبيث للخبيث ولا ينكح الزاني إلاَّ زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلاَّ زان أو مشرك: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُها إلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} سورة النور (3).

ويولِّي الله الظالمين لأنفسهم بعضهم بعضاً وكلٌّ ينال أيضاً بمقدار ما يستحق وينفّذ لكلِّ امرئٍ ما اختار على حسب ما تقرُّه تلك الإرادة الإلهية العليا المسيطرة في حكمها فوق الخلائق جميعاً فلا تنفِّذ إلا على حسب ما تقتضيه العدالة فتسوق المحسن للمحسن وتولِّي الظالم على الظالم والله يحكم لا معقِّب لحكمه وهو سريع الحساب.

ويؤيد ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف، إذ يقول: «.. واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لكَ، وإنْ اجتمعوا على أنْ يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوكَ إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ عليكَ». رواه الترمذي.

فَسِرْ بالخير ليُكتب لك ولا تَسرْ بالشرِّ لئلا يُكتب القصاص عليك.

ولا يظنَّن ظانٌّ أن هذه الكتابة ـ كما تزعم فرقة الجبرية الكافرة ـ كتابة قديمة أزلية فتعالى الله أن يكتب على الإنسان شيئاً لم يحرِّك به جارحة ولم يكن له فيه اختيار ولا إرادة، إذ لو كان الأمر كما يظنُّون، وأن الله تعالى كتب على أناس ضرّاً وأذى، وكتب لآخرين نفعاً وخيراً لكان ذلك من الله تعالى ظلماً وجوراً ولتنافى ذلك مع العدالة الإلهية تنافياً ظاهراً.
فهذا الإله العليُّ القدير الذي كرَّم الإنسان وحمله في البر والبحر ورزقه من الطيِّبات وفضَّله على كثير ممَّن خلق تفضيلاً، هذا الإله الذي نظَّم هذا الكون على أبدع نظام وجعل ما فيه مسخَّراً للإنسان، ثم أرسل له الرسل الكرام وأنزل معهم الكتاب وساق فيه من العبر والمواعظ والأمثال، ما يكون لهذا الإله أن يفعل ذلك كله ويكون قد كتب على طائفة من بني الإنسان الشقاء وكتب لآخرين السعادة والهناء، وهذا ما لا يرضاه أب لأبنائه، بل يبغي السعادة لهم جميعاً، ولله المثل الأعلى.

وكيف يكتب أم كيف يفضِّل ويميِّز أناساً عن أناس والخلْق كلّهم عيال الله وهم جميعاً عباده؟
لا شك أن من أوتي ذرَّة من منطق صحيح وتفكير سليم لا يرضى بهذه المعتقدات الفاسدة، بل إنما يردُّها لأول وهلة.

وهكذا فالحديث الشريف إنما يعني بتلك الكتابة ما كتبه الله على الإنسان من عمله مما اكتسبته نفسه. فكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

وبناء على هذا فالحديث الشريف يبيِّن لنا في شطره الأول أن هؤلاء الذين طهرت نفوسهم وأصبحت صالحة لفعل المعروف والإحسان، هؤلاء الذين كتب الله تعالى في نفوسهم فعل الخير بسبب إقبالهم على خالقهم وصدقهم في مطلبهم لو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك بسبب ما كسبته نفسك وما استحققته أنت بعملك الطيِّب.

وكذلك الأمر بالنسبة لأهل الأذى والشر ليس لهم سلطان عليك، ليسوا بمستطيعين أن يضرُّوك ولو اجتمعوا على ذلك إلاَّ إذا كنت قد قمت بعمل استحققت عليه ذلك الأذى وكُتب ذلك عليك من عملك.

ولعمري ذلك محض التوحيد وتلك هي العدالة الإلهية يتجلَّيان في قوله صلى الله عليه وسلم وهو خير من وصل إلى التوحيد الصحيح فشهد أن لا إله إلا الله ورأى العدل الإلهي جارياً على الخلْق جميعاً فليس لأحد فعل أو تصرُّف إلا على حسب ما تقرُّه العدالة الإلهية ويأذن به الله.
قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة يونس (107).

أقول: ويؤيد ذلك أيضاً ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم عن لسان سيدنا هود صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب قومه بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {... إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ}: دبِّروا ما شئتم لا أعبأ بكم جميعاً ولا تستطيعون، فلا سلطان لكم علي أبداً.

السبب: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ.. }: الكلّ بيده {..مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}: ما من شيء إلا سيره بالله. {..إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: حيث أنه صلى الله عليه وسلم مؤمن بأنه طاهر ومستقيم على أمر الله بالتمام، عرف أن الله تعالى لا يسوق له شيئاً من الأذى على يد أحد، لذلك كان جريئاً وانتصر.

وآيات القرآن الحكيم طافحة بالأدلة التي ترجع الاختيار للإنسان في تقرير مصيرهم فكلمة (لعلهم) واردة في أكثر من مائة آية في مواضع شتى قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} سورة الأنعام (42).

إذاًً لا قضاءً مبرما ًًًًًًًًًًًًًَولا قدراً محتماً فلا إكراه في الدين فكلمة (لعلهم) تشير إلى منح كامل الاختيار للإنسان ذاته وعن فرعون قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} سورة طه (44).

أفلا تدل كلمة (لعله) الواردة بالآية بأن فرعون مطلق بمشيئته، فإما أن يتذكر ويخشى وإما أن يستكبر وينكر.

وبآيات كثيرة وردت: {..كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} سورة البقرة (187).

{..وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة البقرة (221).

أما إذا كان الإنسان مجبراً فما معنى إرسال الأنبياء والرسل؟
وما معنى آيات الذكر الحكيم من إنذار وتبشير؟!

أقول: إن الله يريد الهداية لهذا الإنسان عن طوع ودون إجبار لأنه لا يوجد ثمة فائدة يجنيها الإنسان إذا سيق إلى ما يكرهه بالقوة، إذ الهداية الحقة: أن تقبل عن طوع وبدافع ذاتي فالحرية المطلقة ملك الإنسان وهو حر في سيره إما الهداية أوالضلال قال تعالى: {..إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} سورة الإنسان (3).

فمن يكفر بالله فقد ضل نفسه عن الهدى وما ربح أبداً وكان حقاً على الله أن يمده بما يريده قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} سورة الاسراء (20).

إلا أنه لا ظلم في الكون والله بعدله فوق الجميع فلا يستطيع المعتدي أن يتسلط على إنسان طاهر مستقيم، بل هو أخسأ من ذلك.
إنما يُخرج الله له ما بنفسه على مستحق ظالم، فالسارق لا يسرق إلاَّ ممن سبقت له السرقة كذلك القاتل لا يقع جرمه إلاَّ على مستحق استوجب أن يموت قتلاً، والزاني لا ينكح إلاَّ زانية أو مشتركة وحُرِّم ذلك على المؤمنين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} سورة الأنعام (129).

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} سورة النساء (141).

فحكم العدالة في البرية ساري.

إذن العبد مخيّر يستطيع أن يختار ما يشاء ولهذا المعنى يستحق العقوبة أو الثواب، فمتى وجد من العبد القصد والاكتساب يحصل له من الله القوة والاستطاعة على الأعمال، قال تعالى في سورة يونس (25) {..وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: كل من شاء، فمن سلك طريق الإيمان هداه الله.

قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}: كل من طلب نال.

قال تعالى في سورة عبس: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}: أي فمن شاء أن تحصل له هذه التذكرة فعليه أن يذكر الله تعالى.

أقول: إن هذه الإرادة المطلقة التي مُنحها الإنسان لا يستطيع أحد أن يوجهها إلى جهة مهما جهد وتعب ما لم تتجه هي بذاتها أي النفس المخيَّرة فتعرف خيرها من شرها وما الأنبياء والمرسلون إلاَّ هداة ومذكرون قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} سورة البقرة (148).

أما الآية الواردة في سورة التكوير: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}: تدل بأن هذا البيان الذي أورده الله تعالى ذكر للعالمين لا يستفيد منه إلا من تطلبت نفسه سلوك طريق الحق وشاء أن يستقيم، وهذه الآية تبيِّن عدل الله في خلقه ورحمته بجميع عباده فهو لم يخص بفضله أناسا دون آخرين، بل جعل نيل الفضل الإلهي متوقفا على مشيئة الإنسان واختياره فكل من شاء وأراد إذا تلي عليه هذا البيان كان ذِكراً له وأثراً في نفسه.

ثم إن الله تعالى بيَّن أن مشيئة الإنسان في الاستقامة متوقفة على شيء واحد، فهذا الإنسان الحر في إرادته المطلق في اختياره، لا يشاء أن يستقيم إلا إذا وجد ربه منه صدقاً في طلب الحق وعزماً صحيحاً على الوصول إليه.

أما مجرد طلب الاستقامة خالياً من الصدق فلا يغني صاحبه شيئاً ولا يريه حقيقته لذلك قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: أي أن مشيئتك أيها الإنسان بالاستقامة لا تصح ولا تتولد في نفسك إلا إذا رأى ربك منك صدقاً في طلب الحق، فإذا وجد فيك هذا الصدق رزقك تلك المشيئة (مشيئة الاستقامة).

إذن فالأمر بيدك أيها الإنسان فما دمت مستسلماً لشهواتك غارقاً في أوحالها غير طالب بصدق الوصول إلى الحق فلا بد أن شهوتك تظل حجاباً بينك وبين رؤية الحق، ولست تستطيع أن تتطلب ذلك الطلب العالي في الاستقامة وبالتالي لا تستطيع أن تتذكر ما جاءك به القرآن من العبر والآيات لأنك مريض القلب ونفسك ملأى بشهواتها الخبيثة ومن الخير لها أن تفرغ مما خالطها.

أما إذا أنت قمعت شهوتك بإقناع نفسك، وصدقت في طلب الوصول إلى الحق فهنالك يتجلى عليك ربك فيريك الحق ويرزقك ذلك المطلب العالي وتلك المشيئة الطيبة في الاستقامة.

فإذا ذُكِّرت في القرآن ذكرت واتَّعظت {.. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} سورة غافر (13).

والكلمة الفصل بالتسيير والتخيير وهل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر هو أن الإنسان مخيَّر إلى أقصى حدود الاختيار، بل له الاختيار كله ولكن لا حول له ولا قوة بل الحول والقوة لله وحده، فالإنسان يختار ويصمِّم والله يسيِّره لتحقيق اختياره بالتمام وعلى حسب صدق الإنسان في الطلب، الإنسان يختار ويطلب والله يطلقه ويمده لتنفيذ وتحقيق طلبه.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا،كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} سورة الإسراء (18-20).

والحمد لله رب العالمين
هذا البحث الفريد من علوم فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو