خطبة الشيخ عبد اللهالقرعاوي
الحمد لله البر الجواد الكريم، القابض الباسط الرحمنالرحيم، أحمده تعالى على فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،أمرنا بصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والأيتام، وأشهد أن نبينا محمدا عبدهورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الصدقة من أسباب الوقاية من النار ولو كانتباليسير، قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُواالنَّارَوَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍفَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» وهي دليل على صدق إيمان العبدولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَان).
فهي برهان على إيمان العبد، لأن النفس مجبولة على حبالمال، فإذا تغلب المسلم على نفسه، وأنفق في سبيل الله، كان ذلك برهان على أنهيقدم مرضاة الله ومحبوباته على محبوبات نفسه، -( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِفَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)- [التغابن/16] قال الحسن البصري رحمه الله: (إذاأردت أن تعلم من أين أصاب الرجل ماله فانظر فيما أنفقه، فإن الخبيث ينفق في السرف). وما أجملعمل المنفق أو المتصدق عندما يكون سببا في مسح دموع مكروب، أو إدخال السرور علىقلب فقير معدوم، أو يتيم فقد حنان والديه، أو تفريج عن مسجون في دين ونحوه، إنهاالسعادة، لا توزن أموال الدنيا يهبها الله تعالى لعباده المحسنين المنفقين -(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)- [آل عمران/134]. دخل أعرابي قد ضربه الفقروأصابته الفاقة على عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ومعه صبية صغار، لا يجد مايسترهن به فقال شعرا، ذكر فيه السؤال يوم القيامة، فبكى عمر رضي الله عنه حتىاخضلت لحيته، ثم قال: (يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، أما والله لاأملك غيره).
هذا عمر رضي الله عنه الذي تعلم من النبي صلى الله عليهوسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان.
يقول رضي الله عنه عام الرمادة الذي أصاب الناس فيهالفقر: (والله لا أبتل بسمن ولا آكل سمينا حتى يجلي الله الكربة عن المسلمين).
وقال مرة لمولاه أسلم: أتنام الليل قال: نعم قال عمر:(والله ما نمت من ثلاث، فقد جعل الله في عنقي الأرملة والمسكين والشيخ الكبيروالعجوز واليتيم).
عباد الله:
لقد بلغ من رحمته رضي الله عنه أنه كان يسأل عن أطفالالمسلمين، ماذا أكلوا وماذا شربوا وكيف ينامون وهذه هي الرحمة التي علمها رسولالله صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله ومن نسي حقوقالناس وآلامهم ومشكلاتهم، عرض نفسه أن يُنسى وأن يُحرم الخير والإحسان، وكم هومذموم بالمسلم أن يشبع وجاره جائع، وأن يلبس أفخر الثياب وجاره أو أخوه المسلم لايجد ما يستر به عورته، أو ينبسط وجاره أو قريبه و أخوه المسلم في السجن بسبب دينونحوه، لا يسعى في تفريج همه، وتنفيس كربه.
وإذا كان المسلم لا يستطيع أن يسدد ما على المسجون مندين فليساعد في ذلك عن طريق اللجنة الوطنية لرعاية السجناء، فإنه من التعاون علىالبر والتقوى، ويجوز صرف الزكاة للفقراء والمساكين والغارمين من المسجونين وغيرهمعن طريق اللجنة، فعلى المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى يقول صلى الله عليهوسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعىله سائر جسده بالسهر والحمى» ().
وفي الحديث القدسي: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّيَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ:يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَأَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْعُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْتُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُأَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَآدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَوَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْتَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» رواه مسلم وغيره( ).
فاتقوا الله عباد الله، وانتفعوا بأموالكم ما دامت فيأيديكم بالتقرب إلى الله والمسارعة إلى ما فيه رضاه -(آَمِنُوا بِاللَّهِوَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوامِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)- [الحديد/7].
ابتغوا بأموالكم الضعفاء والمساكين وفرجوا عن المسجونينالغارمين وأنظِروا المعسر منهم قال تعالى: -(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌإِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْتَعْلَمُونَ*وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىكُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)- [البقرة/280-281].
فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، -( أَنْفِقُوا مِنْطَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَاتَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْتُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)- [البقرة/267].
فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وما تصدق أحد بعدلتمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فتربوا عنده حتى تكون أعظم من الجبلالعظيم.
وذكر صلى الله عليه وسلم «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُفِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ -فعد منهم- «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَبِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُمتفق عليه( ).
وقال تعالى: -(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)- [التوبة/104].
عباد الله:
وإخراج الزكاة والنفقة الواجبة أفضل من صدقة التطوعلقوله تعالى: -(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْبِهَا)- [التوبة/103].
فهي مزكية للنفوس ومطهرة من الذنوب وفي الحديث القدسيقال الله تعالى: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه( ).
ومما افترض الله عليه الزكاة والنفقة الواجبة، فيا أهلالدثور لا تفوتنكم الأجور، هنيئا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لا يريدون فيذلك إلا وجه الله، -(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِاللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُحَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)-[البقرة/261].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بمافيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمينمن كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلموبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله:
اتقوا الله تعالى، وأنفقوا مما رزقكم الله، واحذروا منالبخل بما آتاكم الله فلقد ضرب الله تعالى في كتابه الكريم أبلغ المثل لحال الذينيكنزون الأموال ويبخلون بها، بقارون قال عز وجل: -(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْقَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّمَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُلَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)- [القصص/76].
فلما كفر النعمة ورفض الإحسان والشكر قال الله تعالى:-(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)- [القصص/78] خسف الله بهوبداره الأرض -( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِوَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)- [القصص/81] -( وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِأَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)- [فصلت/16].
وقال عز وجل: -( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَوَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍأَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَاجِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوامَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)- [التوبة/34-35].
عباد الله:
وإن في الناس فقراء لا موارد لهم، ونسوة لا عائل لهن،وأيتاما لا آباء لهم، وغارمين مسجونين عاجزين عن تسديد ما عليهم من ديون، وعاجزينعن النفقة على أولادهم، يتقطعون حسرات ،قد تحجر الدمع في أعينهم أزرى بهم الفقروهم ذو شرف، وأخرتهم الحاجة عن المسابقة إلى الفضل، ولا عجب:
فالفقر يزري بأقوام ذوي حسب
وقد يسود غير السيد المال
في حين أن بعضا من المسلمين يتخوضون في مال الله بغيرحقه، وكم يرى المسلم في رمضان، من موائد وصنوفا من الطعام متنوعة، لا يؤكل منهاإلا القليل ثم ترمى، فأين التعاطف وأين الرحمة، وأين الصالحون الصائمون، الذينيحملون بين جوانحهم أفئدة رقيقة ونفوسا رحيمة، هذبها الصيام والقيام، تتسابق إلىالخيرات، وكم هو جميل بالمسلم أن يحنو على إخوانه من الفقراء والمساكين، الذينتقطعت بهم السبل عندها تزكوا نفسه وتسموا، كلما كان سببا في تفريج كربة، أو تضميدجراحات مسلم، وهو بهذا المسلك النبيل يرتفع بنفسه عن المستوى الآثم، الذي يقع فيهعباد المال الذين يركضون جهدهم وراء المادة، متغافلين عما أوجب الله في هذا المال،من حقوق للضعفاء والمساكين، حتى أورثتهم ذلك قسوة في القلوب وضعفا، وغلظة فيالنفوس، ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بقوله: «تعس عبد الدينار والدرهموالقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعطى لم يرض»( ).
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىالنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُواتَسْلِيمًا)- [الأحزاب/56]. وأكثروا عليه من الصلاة يعظم لكم ربكم بها أجرا، فقدقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِبِهَا عَشْرًا»( ).
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارضاللهم عن الأربعة الخلفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابك أجمعين، وعنالتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وإحسانك ياأرحم الراحمين