الاعجاز فى قوله ( والارض ذات الصدع )
قال تعالى: ( والارض ذات الصدع )
هذه الآية الكريمةمن خواتيم سورة الطارق, وهي سورة مكية, يدور الخطاب فيها حول أمورالعقيدة, ومنها قضية البعث, وقضية صدق الوحي بالقرآن الكريم, وهما قضيتان استحال فهمهما, والتصديق بهما علي المنافقين من الكفار والمشركين والمتشككين عبر التاريخ..!!!.
وتبدأ سورة الطارق بقسم من الله( تعالي) وهو الغني عن القسم ـ بالسماء وبالطارق ـ وفي القسم بهما تفخيم لشأنهما, وذلك لدلالة كل منهما علي عظيم قدرة الخالق الذي أبدعهما( سبحانه وتعالي). ومن صور ذلك التفخيم السؤال الموجه إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) عن ماهية الطارق, ثم يأتي الجواب بأنه النجم الثاقب وهو نجم يمثل مرحلة مهمة في نهاية حياة النجوم العملاقة يعرف باسم النجم النيوتروني والنجوم النيوترونية هي نجوم قليلة الحجم, عالية الكثافة تدور حول محاورها بسرعات فائقة مصدرة سيولا من الموجات الراديوية, تتتابع كالطرقات المتلاحقة التي تثقب صمت السماء, وتصل إلينا وهي تدق سماء الأرض بطرقاتها المتلاحقة.
ويأتي جواب القسم بقول الحق( تبارك وتعالي): إن كل نفس لما عليها حافظ, أي أن( الله تعالي) قد جعل علي كل نفس رقيبا حافظا من الملائكة, يحفظها, ويحفظ عنها, ويحصي عليها كل ما تعمل من خير أوشر, في مراقبة دائمة, دائبة, لا تتخلف, ولا تتوقف ابدا, حتي يتأكد الإنسان من أنه محاسب لا محالة, وان اعماله محصية عليه بدقة,وأنه سوف يجزي عليها الجزاء العادل الأوفي.
ثم تستمر الآيات بتذكير الإنسان بضرورة النظر في أول نشأته حتي يعرف فضلا لله( تعالي) عليه فلا يكفر, ويعرف قدر نفسه فلا يتكبر ولا يتجبر,ويؤمن بأن الذي أنشأه من ماء مهين قادر علي إفنائه, وقادر كذلك علي بعثه بعد موته, وعلي محاسبته وجزائه الجزاء الأوفي, وفي ذلك يقول ربنا(تبارك وتعالي): فلينظر الإنسان مم خلق ويأتي جواب الاستفهام خلق من ماء دافق, يخرج من بين الصلب والترائب ويأتي بعد ذلك القرار الإلهي القاطع: إنه علي رجعه لقادر.
أي أن الله( تعالي) الذي أبدع خلق الإنسان من ماء مهين, لقادر علي إماتته, وعلي إعادة بعثه, أي إرجاعه الي الحياة مرة أخري بعد الموت,ليقف بين يدي خالقه ومبدعه يوم القيامة فردا, بغير أدني قوة ذاتية فيه يمكنه ان يمتنع بها, ولا ناصر يمكنه أن ينتصر به, يقف مقرا بكل فعلفعله, وكل مال اكتسبه او أنفقه, وكل كلمة تفوه بها, ثم يلقي جزاءهالعادل في هذا العرض الأكبر أمام الله, في يوم تكشف فيه كل مكنونات الصدور, وجميع ما يكون قد أخفي فيها من العقائد والنيات, ويصفها لحق( تبارك وتعالي) هذا اليوم بقوله:
يوم تبلي السرائر فما له من قوة ولا ناصر ثم تستطرد الآيات بقسم آخر يقولفيه ربنا( عز من قائل): والسماء ذات الرجع, والأرض ذات الصدع,ويأتي جواب القسم: إنه لقول فصل, وما هو بالهزل أي أن هذا القول بالقرآن, الناطق بالبعث بعد الموت وبغير ذلك من امور الغيب هو قول فاصلبين الحق والباطل, وهو قول جاد, حاسم, لا هزل فيه, وفي ضوء هذا القول القاطع, الحاسم, الجازم يتجه الخطاب في ختام هذه السورة الكريمة الي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) مباشرة, والي من معه من صحابته الكرام( رضوان الله عليهم أجمعين), مثبتا ومطمئنا إياهم ـ وهم يعانون مكابدة الكافرين والمشركين من أهل مكة ـ كما نكابد اليوم غطرسة أهل الكفر واستكبارهم ـ بأن الله تعالي قادر علي أن يقابل كيدهم البشري الهزيل بكيد رباني متين, لا يستطيعون له دفعا ولا منعا, والله علي كل شيء قدير,يستدرجهم من حيث لا يعلمون, ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر وما ذلك علي الله بعزيز, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): إنهم يكيدون كيدا,وأكيد كيدا, فمهل الكافرين أمهلهم رويدا أي لا تستعجل عقابهم, وانتظرأمر الله فيهم, فسوف يريكم فيهم عجبا كما نطمع أن يرينا في أهل الكفروالشرك والضلال في زماننا عجبا إن شاء.. والله غالب علي أمره ولكن أكثرالناس لا يعلمون( يوسف:21).
وهنا يبرز السؤال المهم: لماذا أقسم ربنا( تبارك وتعالي) بالسماء ذات الرجع وبالأرض ذات الصدع؟ وما هي أهمية كل منهما التي جعلت منهما مادة لهذا القسم الإلهي, والله تعالي غني عن القسم؟
وقد سبقت الإجابة عن الشطر الأول من القسم في مقال سابق, ونركز هنا علي الشطر الثاني من القسم: والأرض ذات الصدع وقبل الخوض في ذلك لابد لنا من استعراض شروح المفسرين السابقين لهذا القسم القرآني الجليل.
شروح المفسرين
في شرح هذا القسم القرآني أشار ابن كثير( يرحمه الله) الي قول ابن عباس( رضي الله عنهما) بأنه: هو ان صداعها عن النبات وذكر أن كلا منابن جرير وعكرمة والضحاك والحسن, وقتادة, والسدي( عليهم جميعا رحمةالله ورضوانه) قالوا به, كما قال به غيرهم; ومنهم صاحبا تفسيرالجلالين( يرحمهما الله) اللذان قالا: هو الشق عن النبات, ولكن صاحب الظلال( يرحمه الله) قال: والصدع: النبت يشق الأرض وينبثق,ووافقه في ذلك صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( يرحمه الله) إذ ذكر مانصه: ذات الصدع اي ذات النبات, لتصدعها وانشقاقها عنه, وأصل الصدع: الشق, وأطلق علي النبات مجازا, والنبات في الأرض إنما يكون بسبب المطر النازل من السماء. أقسم الله بهما علي حقية القرآن الناطق بالبعث...
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا ورحم منمات منهم): أقسم بالسماء ذات المطر الذي يعود ويتكرر, وبالأرض ذات الانشقاق عن النبات الذي يخرج منها.
وكذلك أشار صاحب صفوة التفاسير( بارك الله فيه) الي قول ابن عباس(رضي الله عنهما) في تفسير قول ربنا( تبارك وتعالي)( والأرض ذات الصدع) ما نصه: أي وأقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار...
ومن هذا العرض يتضح بإجماع قدامي المفسرين علي أن القسم بالأرض ذات الصدع يشمل انصداعها عن النبات او يعني نبات الأرض ذاته, بمعني أن الصدع هوالنبت يشق الأرض, وينبثق منها.
الأرض ذات الصدع في منظور العلوم الكونية
من المعاني الصحيحة التي فهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معني انصداعها عن النبات, اي انشقاقها عنه, ولكن لما كانت لفظة الارض قد جاءت في القرآن الكريم بمعني التربة التي تغطي صخور اليابسة, وبمعني كتل اليابسة التي نحيا عليها, وبمعني كوكب الأرض كوحدة فلكية محددة,فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لابد وان تكون له دلالة في كل معني من معاني كلمة الأرض كما نجده في الشرح التالي:
أولا: انصداع التربة عن النبات:
الصدع لغة هو كسر في الأرض تتحرك الأرض علي جانبي مستواه حركة أفقية, أو رأسية أو مائلة.
وتربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل, وهي معادن دقيقة الحبيبات( أقطارها أقل من0.004 من الملليمتر) وتتركب اساسا من سيليكات الألومنيوم علي هيئة راقات متبادلة من كل من السيليكا( ثاني اكسيد السيليكون) والألومينا( ثالث اكسيدالألومنيوم) مع عناصر اخري كثيرة, ويحمل كل راق علي سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة علي حسب نوع الصلصال المركب منه.
والصلصال من المعادن الغروية, والمواد الغروية لها قدرة الانتشار فيغيرها من المواد نظرا لدقة حبيباتها, كما ان لها القدرة علي تشرب الماء والالتصاق بأيونات العناصر, ولذلك فإنه عند نزول الماء علي التربة أوعند ريها بكميات مناسبة من الماء فإن ذلك يؤدي الي انتفاشها وزيادة حجمها, فتهتز حبيباتها, وتربو الي اعلي حتي ترق رقة شديدة فتنشق لتفسح طريقا سهلا لكل من الجزير المندفع الي أسفل, والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة الي اعلي حتي تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر علي سطح الارض مستمرة في النمو لتغطي باقي اجزاء النبات.
واهتزاز التربة بنزول الماء عليها له اسباب اخري غير زيادة حجم حبيباتها بالتميؤ, ومن ذلك وجود الشحنات الكهربائية المتشابهة علي اسطح الحبيبات, مما يؤدي الي تنافرها, وتباعد الحبيبات عن بعضها البعض,في حركة اهتزازية لا يمكن إيقافها الا بتعادل تلك الشحنات بواسطة شحنات مخالفة ناتجة عن تأين أملاح التربة في ماء الري, ومنها دفع جزيئات الماء لحبيبات التربة في كل الاتجاهات لتفسح مكانا لخزن المياه بين تلك الحبيبات, ومنها دفع جزيئات الهواء المختزن لحبيبات التربة بواسطة الماء الذي يحل محله باستمرار حتي يطرده بالكامل, وكلما زادت كمية المياه المختزنة في التربة حجما زاد انتفاشها وأدي ذلك الي زيادة حجمها, فكل حبة من حبات التربة لها القدرة علي التشرب بالماء, وحمله علي سطحها,واختزانه في المسافات بينها وبين ما حولها من حبيبات, وبذلك يتم التبادلبين الأيونات المختلفة علي اسطح حبيبات التربة والأيونات المذابة في الماءالمحفوظ بينها ليستفيد النبات من أيونات العناصر المغذية له في التربة بعد تحللها بواسطة الإنزيمات الخاصة التي تفرزها الجذيرات المندفعة الي اسفل من البذرة النابتة. ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها اوريها ما أنبتت الأرض علي الإطلاق, ومن هنا كان ذلك وجها من أوجه القسم بالأرض ذات الصدع لأهميته البالغة في إعمار الأرض وجعلها صالحة للحياة.