آنَ تَلقّفنا ذاكَ الإسفلتُ المجدورُ
كان شواظُ الظُّهْرِ يسوطُ الرأس بألوانِ القيظِ...
ونادتنا لافتةٌ مُتْعَبَةٌ
كانَتْ أبوابُ "المعرِضِ" هَمْساً مَكتوماً....
وتَوقَّفنا...
قُلنا.. نقرأُ بعض العُنواناتِ ونمضيْ
لَفحَتنا أنفاسُ الحرفِ المأسورِ فَغِبنا...
بينَ صُفوفٍ مُتداخلةٍ .
يتفرَّدُ في صدرِ "المعرضِ"... ديوانٌ..
يعرضُ في نَزَقٍ.. شِعْراً مُنْضَبِطاً
عَرْبَدَ ديوانٌ لصديقٍ...
يتصعلكُ في حاناتِ الشِّعرِ الممنوعِ بأزمانٍ مُوحشةٍ
شارَبَهُ "الملكُ الضِّلِّيلُ" ثلاثةَ أقْداحٍ
وأراقَ "ابنُ العَبْدِ" الرَّابعَ في صدرٍ
مفتوحٍ لرياحِ الأرضِ
عَرْبدَ "ديكُ الجِنِّ" بصوتٍ يخنقُهُ العشقُ.
كان حواراً... ناراً
وارتفعتْ أصواتُ التَّفعيلاتِ تُؤَلّفُ أنغاماً مشكلةً.
راشَقَني "أَدَبُ الكُدْيَةِ" نِظْرَةَ عِشقٍ
أعرضتُ بحرصِ الخائفِ ألاَّ يسقطَ في شَرَكِ العِشْقِ
وصاحَ الطّينُ: لا عشقَ معَ الجوعِ... صديقي.
خالسَني ثانيةً...
أخذتْني الرِّعدةُ...
جَرَّرني الطّينُ... بعيداً
واشتعلتْ في الرُّوحِ الآثمِ نارُ الشَّوقِ إلى الأسرارِ
راودتُ الطّينَ ليبتاعَ كتاباً..
ذُعِرَ الطّينُ:
وَهْمٌ هذي الكتبُ
وَهْمٌ.. هذي الأشعارُ وتلكَ الأفكارُ الخرقاءْ
وَهْمٌ كليالي المسروقينَ الفقراءْ
ويُنَظِّرُ ذاكَ النّاقدُ...
يعرضُ أفكاراً في النَّقدِ ، ونَقْدِ النَّقْدِ
فما أغباهُ
حينَ ينوسُ كقنديلٍ يسكنُهُ فَقْرُ الزّيتِ
وفَقْرُ دماهُ.
خاتلتُ الطّينَ قليلاً
ونظرتُ إلى صفٍّ من كتبٍ "خضراءْ"
لامستُ الأوَّلَ، مَسْحُوراً، بأنامِلَ واجِفَةٍ
نَبَتَتْ في زاويةِ المعرِضِ عينُ إلهٍ راصدةٌ...
كادتْ تَضبطني.
قلتُ: اسْتغواني هذا الصفُّ الأخضرُ من كتبِ الأجدادِ
وما أغواني.
- بلْ كِدْتَ.. تلامِسُهُ
أَتَهَجَّا في عينيكَ الشوقْ
أَتَقَرَّا في صدركَ نأمةَ عشقٍ...
جرّوهُ.
أُوقِفْتُ أمامَ العرشِ تُقَلِّبني عينُ كبيرِ الأربابِ..
وسحَّ الذُّعرُ.
قال: تَمرَّستَ بعشقِ الكتبِ "الصّفراءِ"
وتلكَ ذُنوبُ
ها أنتَ تخاتِلُنا.. في السّرِّ.. لتبتاعَ كتاباً.
قلتُ: أتوبُ.
أستغفركَ اللّهمَّ إلهَ الجوعِ
فذنبي لا يمحوهُ الدَّمْعُ وأنتَ الغَفّارُ المَرْهُوبُ
لن أقرأَ بعدَ اليومْ
يكفينا عرشُكَ يامولايَ ففيهِ العلمْ
أنَ العالمُ والعَلاّمُ
وأنتَ الكاتبُ والمكتوبُ
مولايَ.. العفوَ
فلن أقرأَ بعدَ اليومِ
أعودُ.. غبيَّا
مولايَ... أعودُ كما تبغيْ.. ولداً أُمِّيَّا
مولايَ.. تطهّرتُ من الحرفِ بنارِ الجوعِ
استسلمتُ.. وأسلمتُ غواياتيْ
ماتْت في النَّفسِ... ضَلالاتيْ
***
وسوستِ الرُّوحُ بهمسٍ مُخْتَنِقٍ:
هَيَّا ... فالمعرضُ مفتوحٌ
هَيَّا.. لا ندخلُ بلْ ...
ننظرُ مِنْ خلفِ نوافذِهِ ... ونؤوبُ.
قاتلُني هذا العشقُ..وهذي الكتبُ الخضراءُ
فكيفَ أتوبُ؟!