ككل ليلة ، بينما الأسر سامرة ، إذ يطلع على مسامعها صوت رجل ، ملئت كلماته حزنا.
كان الطفل محمد الأمين لا ينام إلا بعد مرور الرجل بالحي ، فيطل عليه من نافذة مثبثة شوقا لمعرفته .. لكن دون جدوى .. حتى كان يوم عطلة ، وبينما الطفل ساهر مع عائلته إلى ساعة متأخرة ، يصارع النصب والارتخاء حتى طلع الصوت كعادته منشدا : " دلوني على فقيد .. غاب عن قلبي زمانا .. أبدلته بدموع .. أسقي بها جروح قلبي .. "
أسرع الأمين إلى النافذة المفتوحة ليطل عليه فشده حوار الزوجين :
- هذا الرجل يزعجنا بصوته المشؤوم
- و لكنها يا زوجي عبرات قلب حزين
- أنتن النساء ضعيفات ، تعطفن على كل الشيء ..
- يكفي .. يكفي ..
وبينما محمد الأمين ينتظر طلوعه حتى رآه .. منحني الظهر ، قد اتخذ من عصاه متكأ .. يمشي الهوينة كأن به مرضا .
فلما اقترب من الدار ، اندهش الطفل لجمال ملمح الرجل ، ذي لحية يتخللها الشيب ، تلمع بدموع تتصبب عليها.
وتعجب الصغير ، لأنه لم ير إلا شاحب الوجه ، أشعث الشعر ، وسخ الثياب . حتى وقع بصر الرجل عليه ، فإذا بالظهر يستقيم ، وإذا بالصوت ينقطع ، وإذا باليد تمسح الخد الذي أحرقته الدموع ..
وتبادلا النظرات مليا كأن بينهما حديث قلب . فأدخل الطفل وبقي الرجل على حالته حتى انطفأ ضوء البيت.
و في الصباح خرج محمد الأمين كعادته مع زميله وليد إلى المدرسة ، وفي الطريق قال وليد :
إنني متعب اليوم ، كل يوم يزعجني صوت ذلك الرجل ، فيوقظني ، فأبقى على هذه الحال أتخبط حتى أنام.
هل رأيته يا وليد ؟
نعم ، عدة مرات .
فأنا رأيته البارحة ، والغريب أنه وقف ينظر إلي كأن له حاجة عندي .
صدقت يا أمين ، نفس الشعور الذي شعرت به.
مضت ساعة من الدراسة ، ووليد يصارع النعاس حتى خر على كتابه . أسرع إليه المعلم والخوف باد على وجهه ، حتى طمأنه محمد الأمين:
سيدي .. إنه تعبان .. لم ينم البارحة بسبب رجل ، يمر كل كل ليلة مناديا ، فيمكث زمنا حتى تغيب خطاه وينقطع صوته.
ترك المعلم وليدا ثم صعد المصطبة ليحكي قصة هذا الرجل .. والعجيب في الأمر أنه وعدهم بإحضاره.
ذات ليلة ، بينما وليد وأسرته مستقبلين التلفاز الذي سحر عيونهم إذ سرق نشيد الرجل انتباهه ، فقام إلى الشرفة ينتظر مجيئه . فلما وقف الرجل على مد البصر نادى وليدا:
ما اسمك يا بني ؟
و..و.. وليد .. و..وأنت ما اسمك ؟
أنا .. أ..
وما كاد يتلفظ باسمه حتى كان والدا الطفل قد أدخلا ابنهما ثم أنباه على فعلته.. فقد يكون الرجل خطافا الأطفال .
ولكن يا أبي .. أخبرنا المعلم أنه ليس كذلك .. فهو إنسان محترم . وهو في حاجة إلى مساعدة .
أتسمعين يا امرأة .. كلام معلمه أصدق من كلامنا .. يا بني لنقل أن معلمك صادق .. فنحن فقراء لا نملك سوى قوت يومنا .. فبماذا نساعده .. لو قالها صديقك محمد الأمين لأبيه لكان أعقل .. فهم يسكنون بيتا واسعا ويملكون رزقا . زد على هذا فالأب رب ومصنع.
ولكن يا أبي .. هذا الرجل ليس في حاجة إلى مال أو بيت .. بل إلى من يدله على ابنه الذي افتقده منذ سنوات ..
وتأخذ الأم رأفة فتعارض زوجها بتصديق ابنها :
سأتحسس بين جاراتي ، فقد آتيك بخبر عن ابنه الضال.
يا امرأة .. أتصدقين ابنك .. عجبا ، فبين كل لفظة لك فيه حال .
وغادر الرجل الحي الذي بات هادئا.
طلع النهار ، وكان لقاء وليد بالأمين ، فقص عليه ما حدث له البارحة والحسرة قابضة الأمين الذي كان منهمكا في تحضير دروسه .
في المدرسة ، وبينما الرجل في طي النسيان ، كان محمد الأمين يتجول في فنائها ، مرتاح البال ، حتى أوقفه حديث مثير :
إنه يبحث عن ابنه .. اسمه محمد الأمين ..
هل سرقوه أم هرب من الدار ؟
لا بل هو مع أمه .. ويقول الرجل أن قلبه يخبره بأن ابنه قريب من مجلسه .. عند الشيخ شعبان .. في دكانه .
أوقف هذا الحوار الأمين ، لما فيه من ذكريات كانت غائبة عنه ، وفي القسم سأل الأمين المعلم قصد تذكيره:
معلمي ، لقد وعدتنا بإحضار ذلك الرجل ليقص علينا قصته ..
الرجل ؟.. آه .. عبد العظيم .. نعم .. نعم ..
عبد العظيم ؟؟ .. وهمس الأطفال فيما بينهم :
أسمعت .. قال عبد العظيم ..
سمعت .. أرى أن المعلم يعرف عنه الكثير ..
وفي الطريق ، لما اقترب الصديقان من باب دكان شعبان ، انخطف قلب الأمين الذي اصطدم بعبد العظيم . فلما تبادلا الاعتذار وانصرفوا .. بقيت ملامح الأمين راسخة في ذهن عبد العظيم الذي أبعد الشك ظنا منه أن وليدا أخوه .
وجاء موعد عبد العظيم مع التلاميذ ، فجلس الجميع ، وبعد هدوء بدأ الرجل قصته ...
كان عمري ثمانية وعشرين عاما ، وكان والدي قد توفي وترك والدتي و ثلاثة إخوة لي ، كلهم يكبرونني سنا.
أما إخوتي فقد من الله عليهم بتجارة ، وأما أنا فكنت معتكفا على طلب العلم مع عمل بسيط استرزق منه. وقد كنت أسكن مع والدتي أرعاها، فإذا احتاجت إلى شيء وجدتني خير مطيع ، وإذا مرضت كنت خير أنيس ، وإذا اشتاقت إلى إخوتي أوصلها إلى ديارهم .. لكنهم يتثاقلونها لكبرها وعدم صواب رأيها.. فأرجعها بعدما تفتتن بثراء أبنائها.
وتبدأ محنتي يوم زوجتني من فتاة متخلقة وطيبة بل يوم رزقني الله ابنا . لقد ضاقت بي الدنيا وانقطعت سبل الاسترزاق. فالمجتمع يطاردني كلما قلت : أريد عملا أطفئ به جوع أهلي .. وصارت أمي تطاردني كلما دخلت فارغ اليدين ، خائبا في سعيي ..
وجرح قلبي الفراغ حتى توترت أعصابي ، وصرت سريع الانفعال . وكان حفظ الله يوم أسرعت لأبشر والدتي بمولود :
أماه .. لقد رزقني الله ابنا .. وقد سميته محمد الأمين ..
والتفت جل التلاميذ إلى صديقهم إشارة إلى تشابه الاسمين. لم يبال عبد العظيم لهذه الالتفاتة أما الطفل فالدهشة بائنة عليه ، كأن القصة يعرفها.
واحمر وجهي وأخذني البكاء ، وكتمت همي .. :كيف أبشرها وترميني بنظرات سامة ، أردت إبهاجها حتى أسمع حلو كلامها .. فترميني بحمى تمتماتها ..
وبقيت أخدمها .. أفعل مثل ما كنت أول الأمر .. لكنها تدعو علي بشر الدعوات ، فيحترق قلبي ويشمئز .. فيحضرني قول الله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ، وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } .
وتمضي خمس سنوات من ميلاد ولدي ، والصبر يمزق كبدي ، وأمر الله يمنعني من فعل ما يؤذيها.
وجاءت الصدمة أكبر وأقوى مني ، فخشيت أن أقول لها شيئا يضرها ،فهربت من الدار إلى حيث لا أدري .
وبعد سنة من الغربة عن الدار ، وصلتني أخبار عن مرض والدتي والذي ألزمها الفراش ، فرجعت إليها ، ولكم كانت الفرحة بلقياي ، ولكم كان الأسف على إخوتي الذين لم يبالوا بها . اللهم إلا بعض النقود التي كانوا يبعثونها مع أولادهم كأن أمهم خادمة عندهم ..
وكم احترق قلبي لما أخبرتني أن زوجتي لم تحتمل الصبر ، فرجعت إلى أهلها ..
وبينما عيون السامعين ترقرق إذ يدق باب القسم ، وطلع الضجيج كطلوع الفجر ، إنه مدير المدرسة الذي همس إلى المعلم وعلامة الأسى ظاهرة عليه..
- أنس محمد الأمين ..
- فقام الطفل وانقبض عبد العظيم ، خرج الصغير مع المدير والبقية تنتظر بشوق تتمة القصة ..
- وبقيت أرعى والدتي ليالي وأياما .. كما حاولت البحث عن زوجتي وولدي .. فلم أجد لهما أثرا ، ولم يبق لي لإلا أن أكتب إلى الجرائد .. فكتبت : إلى زوجتي السيدة أنس عائشة ..
- واضطرب القسم ، ثم قام المعلم الحائر مهدئا القسم وهو يقول لعبد العظيم :
- أتريد أن تقول أنك أنس عبد العظيم ؟ .. وأن محمد الأمين ابنك ؟..
- واشتد بكاء عبد العظيم لهذا الموقف المليء ذلا .. فلم يبق بينه وبين ابنه إلا بضع خطوات .. ثم توجه المعلم إلى تلاميذه قائلا :
- أيها الأبناء .. لقد جاءنا اللحظة خبر وفاة أب .. زوج .. أوووه ..
- واضطرب المعلم الذي أخرصه الموقف ، وفهم التلاميذ الذي بكوا ببكائهما .
- وطرق الباب .. فعم الصمت .. ودخل المسكين الذي لم يخبر بوفاة مربيه .. وإنما أخبر بأنه جد مريض بسبب حادث سيارة ..
- دخل الأمين والحزن قد ملكه مما زاد الطين بلة . فكأن الحجرة نائحة مات قريبها.. إنه بكاء واحد تعددت أسبابه .. ( يتبع)
- أوقف المعلم الجميع ثم واصل عبد العظيم قصته:
- -بعدما كتبت النداء لم أجد جوابا .. توفيت والدتي .. توفيت رافضة مسامحة تقصيري نحوها .. فأشركتني مع إخوتي الذين لم يحضروا إلا بعدما غسلت وكفنت..
- مضت سنة من وفاة والدتي ، فانقض علي الإخوة انقضاض الجائع .. فالدار ليست لي .. إذا سأطرد .. ولكن لي الحق في الميراث .. فحمدت الله على حالي حتى آواني الشيخ شعبان .. وابني الآن قد بلغ اثنتي عشرة سنة.
- والتفت الجميع إلى زميلهم ، لكن الطفل يعيش الأمرين.. فكل صورة هي جزء من ذكريات حياته .
- - وها أنا من وفاة والدتي لم يحل لي نوم ، إذ كلما وضعت رأسي على المخدة تحضرني صورة أمي وصوت في الأفق ينادي: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا }.. وبالوالدين إحسانا .. وبالوالدين إحسانا .. إن ابنك ينتظرك ، فاخرج إليه .. إنه ينتظرك..
- فأخرج في تلك الظلمة وفي ذلك البرد .. أناديه لعله يطل علي أو ألقاه في الطريق.. وكنت كلما يطل علي صغير أو أصادفه في الطريق، أقول هذا ابني .. فإذا سألته عن اسمه غضضت الطرف وزاد قلبي حرقة ولوعة.
- وبعد عودتي إلى مضجعي يناديني المنادي : يا عبد العظيم .. ألا تعرف أي ذنب جنيت .. فأظل أفكر وأفكر .. ثم أقول في نفسي : ربما يوم هربت ..لا لا .. لا أظن ذلك.
- وقاطعه محمد الأمين الذي أدهش الجالسين قائلا:
- - لقد قصت علي أمي قصتك، فعندما فررت وتركت أهلك يعيشون الفقر ، لم يجدوا حلا لكسب العيش ، فتزوجت زوجتك برجل آخر ، فسترها .. وكانت ترسل مع ابنها دراهم إلى أمك ، أما إخوتك فلم يصلهم أي خبر .. حتى فرارك لم يسمعوا به .(يتبع)
- وأخبرتني أمي أن .. أي أنت.. أخطأت عندما فررت.. لأنك أحرقت كبد والدتك .. لذا أذاقك الله فقدان ابنك .. وأوصتني أمي أن الابن يستطيع الصبر على أذى والديه, فيسامحهما دائما. أما الوالدان فلا يستطيعان الصبر , فحتى لو سامحا ابنهما فأمره إلى الله.. فقد لا يغفر الله له.
- انتهت الحصة وخرج الجميع كعادتهم إلا محمد الأمين الذي أسرع إلى الدار ليجد مأتما.
- وتمضي أيام الحزن , فيجلس الطفل أمه ليقص عليها ما تجهله عن عبد العظيم.
- - يا بني هذا الرجل هو أبوك .. فتحسس أمره فإن وجدته فأحضره.
- - كنت أعلم ذلك يا أمي ..
- - كيف ذلك ؟
- - ذات يوم بينما أنا في المكتب إذ وقعت عيني على بطاقة أبي الذي رباني فوجدت لقبه خلاف لقبي. فلم أهتم. ثم ذات يوم سمعتك تقولين : أين أنت يا عبد العظيم حتى تطفئ نار اليتم. فلم أهتم بهذا أيضا رغم الشكوك التي راودتني. إلى أن سمعت زملاء يذكرون اسم ابن عبد العظيم.. فشعرت يقينا أنه أبي.
- - ولكن يا بني , كنت دائما ألمح لك , فلم أذكر اسم ابنه حتى تسألني فأخبرك.. الحمد لله أنك عرفت بنفسك..
- التقت الأسرة من جديد , فبعد فقر غنى وبعد فرقة لقاء. لقد ترك المتوفى ثروته لزوجنه بعد وصية أوصى بها ..لقد قبلته يوم زواجه عقيما مما يجعل المتأمل يسبح الله الذي شاء فقدر ما أراده بما أراده لمن أراده..
- وجاء إخوة عبد العظيمعلى عجل يسألون عنه , فلم يجدوا إلا ابنه عند الباب
- -هل هذه دار عبد العظيم ؟
- - نعم وأنا ابنه ..
- - نحن إخوته .. نحن أعمامك .. ألا تذكرنا..
- - إخوته ؟.. أعمامي؟.. لا أعتقد أن له إخوة وأن لي أعماما..
- وقهقه أحدهم قهقهة الذليل ثم قال :
- - هلا استقبلتنا أفضل من هذا الاستقبال ؟..
- - لا يدخل أجنبي بيتنا .. وعلى الذكر فأعمامي رحمة الله عليهم .. كلهم ماتوا ..
- - ماتوا ؟.. متى ؟ .. وأين ؟.. وكيف ؟..
- - ماتوا يوم قتلوا أمهم وطردوا أخاهم .. انصرفوا لا جمع الله شملكم ..
- وفر الإخوة وهم يرددون:
- - هذا حال ابنه .. الحمد لله الذي لم يلقنا به ..
- ومضت الأيام , فعبد العظيم يزداد غنى والإخوة يزدادون شقاقا حتى تفرقوا وضاع مالهم وأصابهم الفقر..
- إنها دعوة سرية لا يعلمها إلا الله .. ودرس رباني لا ينسى لمن أقلق يوما أمه دون قصد منه فأذاقه الله مرارة العيش سنينا طوالا...