تفسير سورة الحشر إلى سورة التغابن مع الدكتور أحمد بن محمد البريدي عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
الدرس 145 – درس الظهر: تفسير سورة الحشر إلى الآية 11 من سورة الممتحنة
الملقي : د. أحمد بن محمد البريدي
موعدها: 1200 م 1433/04/22 هـ

المجلس الأول
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١﴾ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٢﴾ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ﴿٣﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿٤﴾)
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
نبدأ مجلسنا هذا بتفسير سورة الحشر. وسورة الحشر سورة مدنية بإجماع أهل التفسير وكان ابن عباس يقول هي سورة بني النضير إشارة إلى يهود بني النضير حيث نزلت في قصة إجلائهم من بيوتهم كما سيأتي. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: أُنزِلت في بني النضير، رواه البخاري ومسلم. ورواه البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل: سورة النضير.
يقول الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) هذه السورة هي إحدى سور المسبِّحات والتي ابتدأت بسورة الحديد. وجاء في القرآن إسناد التسبيح على العموم كما في هذه السورة (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (44) الإسراء) وجاء أيضاً إسناد التسبيح إلى الله نفسه سبحانه وتعالى حينما قال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وجاء إسناد التسبيح إلى الملائكة كما في قوله سبحانه وتعالى (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ (30) البقرة) (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (75) الزمر) وجاء إسناد التسبيح إلى الرعد (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ (13) الرعد) كما جاء إسناد التسبيح أيضاً إلى الطير وإلى الجبال كما في آية (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ (79) الأنبياء) وجاء تسبيح الإنسان (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) الحجر) فسبحان ربنا سبحان ربنا تعالى وتقدّس، سبَّح نفسه وأمر عباده بتسبيحه وأخبر أن كل المخلوقات تسبِّح بحمده. والتسبيح كما مرّ هو التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى فقال سبحانه في هذه السورة (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي منيع الجناب (الْحَكِيمُ (1)) سبحانه في قدره وشرعه، حكيم حين يُقدِّر وحكيم سبحانه حين يشرع.
بعد التسبيح دخلت السورة مباشرة في قضيتها وقصتها وما نزلت من أجله فقال سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وأهل الكتاب لفظٌ عامٌّ يشمل اليهود والنصارى لكنه في هذه الآية يُقصَد به ماذا؟ يهود بني النضير على وجه الخصوص كما دلّ على ذلك سبب نزولها. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمّة على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحلّ الله عز وجل بهم بأسه الذي لا يُرَدّ وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من ديارهم وأباح لهم ما حملت دوابُّهم فقط أن يحملوا من متاعهم ما تستطيع حمله الدواب فقط ما عدا السلاح فلا يحملوه خوفاً من غدرهم فإنهم أهل غدر. قال الله سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ) أي أنها ديارهم قبل أن يجليها النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يحكم الله عليهم وبعد أن حكم الله عليهم فما هي بديارهم. قال سبحانه وتعالى (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أول الحشر هو إجلاؤهم من المدينة وقوله (أول الحشر) يفيد أن هناك آخِرٌ لهذا الأول قال بعض أهل العلم: أن آخر الحشر هو إجلاء عمر لهم من خيبر وقيل بل آخر الحشر هو يوم القيامة. فتكون الأوّلية هنا أوّلية مكانية (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي إجلاؤهم من المدينة وآخره إجلاء عمر لهم من خيبر أو نقول يوم القيامة فتكون الأولية هنا مكانية. وهناك رأي آخر لبعض المفسرين وأن الحشر بمعنى الجمع فيكون قوله (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي لأول الجمع فقد كان يهود بني النضير أول جمع لليهود يتم إجلاؤهم وقد أعقبه جمع آخر لإخوانهم من بني قريظة بعد عام واحد وأعقبه جمع آخر في خيبر فتكون الأولية هنا زمانية وفعلية. وسواء هذا أو هذا فلم يختلف المفسرون بأن المراد بأول الحشر هو إجلاء بني النضير من المدينة. قال ابن عباس: من شَكَّ أن أرض المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) حيث قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم اخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر. فقد تم إجلاء هؤلاء إلى تلك الديار. قال الله تبارك وتعالى (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) الخطاب لمن؟ للمؤمنين، للذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي من ديارهم لمَنَعَتِها وقوتها فقد كانت لهم حصون كثيرة شديدة. أنتم (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) بل هم كذلك ما ظنّوا أن يحل بهم ما حل بهم قال (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ) وظنوا من؟ اليهود، يهود بني النضير. (مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من المعلوم أنه لم يحصل أيّ قتال مع بني النضير وإنما كان السلاح الوحيد في معركة بني النضير هو الرعب فقد قذف الله في قلوبهم الرعب حتى نزلوا على حكم الله ورسوله. الرعب الذي خُصّ به النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر هو عن نفسه أنه نُصِر بالرعب مسيرة شهر. إذاً هناك جندي من جنود الله اسمه الرعب وواقع اليهود اليوم في إسرائيل الآن أن أغلب حياتهم مبنية على الرعب وأنتم تعرفون قبل فترة يسيرة الذي يسمونه القبة الحديدية وهو خوف من الصواريخ التي تُطلق عليهم، كله بسبب الرعب. كم من الأنفاق والملاجئ عندهم؟! كلها من الرعب، هذا أثر رعب يسير عما حصل لآبائهم من بني النضير. إسرائيل التي تتسلح بأعتى الأسلحة حينما يُطلَق صاروخ بدائي تصنيع محلي انظر كيف يعيشون في رعب كبير جداً، وما أشبه الليلة بالبارحة! إذاً الجندي الذي نصر الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة من أصحاب الحصون التي لم يظن الإنسان، لم يخطر على البال، لا المؤمنين، المؤمنون أنفسهم ما ظنوا أن يحلّ ببني النضير ما حلّ بهم. وبنو النضير كذلك ما ظنوا أن يخرجوا لأن لهم حصون منيعة فكان الجندي (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، نعم، وضعوا الحصون والقلاع وضعوا السلاح الكبير داخل هذه الحصون لكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، هل يمكن لجندي أن يقاتِل وقلبه يرجف خوفاً ورعباً؟! أبداً، مهما ملك من أعتى الأسلحة (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). وسيأتينا إن شاء الله عز وجل متى حصلت معركة بني النضير أو موقعة بني النضير؟ بعض أهل العلم يرى أنها وقعت بعد بدر بستة أشهر كما هو رأي بعض المؤرخين. ويرى ابن اسحاق أنها وقعت بعد أُحُد وهذا الذي رجّحه ابن عطية. وكونها وقعت بعد معركة أُحُد التي انهزم فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وانتصر فيها أهل الشرك لها دلالة خاصة أم لا؟ لها دلالة خاصة. وبالتالي فإننا نسأل الله سبحانه وتعالى في هذه الساعة المباركة أن ينصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين نعم عندهم أكثر من مئتين رأس نووي كعند بني النضير كالحصون التي عند بني النضير لكن نسأل الله أن يأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا فيقذف في قلوبهم الرعب وتكون هذه الأسلحة لا قيمة لها وما ذلك على الله بعزيز فإنني والله كلما قرأت وكلما سمعت عن ذلك التسلح الرهيب لإسرائيل الذي لو اجتمع العرب قاطبة ما وازوا تلك الترسانة الضخمة لذلك العدو الغاصب وربما يدبّ في نفسك اليأس وتقول إن أمامنا شوط كبير حتى نصلي في المسجد الأقصى، نقول لا، إن الله سبحانه وتعالى حينما هزم آباءهم أصحاب الحصون المنيعة وأتاهم من حيث لم يحتسبوا قادر سبحانه وتعالى أن ينصر المستضعفين المؤمنين الآن فيأتي إسرائيل من حيث لم يحتسبوا. حينما تسمع الولايات المتحدة الأميركية تصرح وتقول لا يمكن أن نجعل لدولة قريبة من إسرائيل أن تتفوق على إسرائيل في التسلح وزيادة على ذلك نحن نضمن أمن إسرائيل لكن نقول إن حصونكم حينما الله عز وجل يكتب النصر لعباده وهذا النصر أيها الإخوة ليست عبثاً لن يكون إلا حينما ننتصر داخل نفوسنا حينما نعلم أن وعد الله حق سيأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا وستكون تلك الأسلحة العاتية غنيمة بأيدي المسلمين بل إنهم إن شاء الله ستتكرر الكرة (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) كما قال الله عز وجل هنا. (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) يقول المفسرون حينما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجلاء فكانوا لهم بيوت جميلة فكانوا يخربونها من أجل أن لا يتنعم بها المسلمون والمسلمون حينما يدخلون عليهم ينقضون عليهم بعض أبوابهم لكي يدخلوا فكان هذا هو صورة الخراب: خراب المؤمنين لاقتحامهم وخرابهم لأجل أن لا يتمتع بها المسلمون والنتيجة أن بيوتهم خَرِبة، تلك البيوت خَرِبة. قال الله سبحانه وتعالى في نهاية هذه الآية (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)) اعتبروا، الله ما جعل هذه القصة إلا لنعتبر كما قلت لكم أن واقع الحال يشهد لصورة من صور قتال اليهود في معركة بني النضير.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ) الجلاء هو مفارقة الوطن، أي أن الله سبحانه وتعالى كتب على يهود بني النضير أن يُنفوا من ديارهم وأموالهم (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) أي بالقتل والسبي ونحو ذلك أي أن الله قد كتب عليهم الجلاء ولم يكتب عليهم القتل ولو لم يكتب عليهم الجلاء لكتب عليهم القتل وذلك بأيدي المؤمنين. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)) الله عز وجل كتب عليهم الجلاء ومفارقة الأوطان ومفارقة الديار ولهم في الآخرة عذاب آخر أشد وأنكى. حينما نسمع دائماً في نشرات الأخبار نسمع أن هناك مستوطنة يهودية، ما معنى مستوطنة يهودية؟ هو اغتصاب الأرض وتهجير من؟ تهجير أهلها، هم ينتقمون مما فعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم فالمعركة مع اليهود معركة عقدية هم الآن يريدون إجلاء المؤمنين كما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم آباءهم.
قال الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنما فعل الله ذلك بهم وسلّط عليهم رسول لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذّبوا بما أنزل على عبده ورسوله. (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)) ماذا تلاحظون في هذه الآية؟ قال الله عز وجل (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ثم قال (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ) هل قال ورسوله لماذا؟ لا داعي للإعادة اكتفى هنا بمُشاقّة الله ولم يذكر مُشاقّة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن مُشاقّة الله عز وجل مُشاقّة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال سبحانه وتعالى (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا) اللينة في أصح أقوال أهل التفسير أنها النخلة جميع أنواع النخل على خلاف من خصّ اللينة بنوع من أنواع التمر كما هو رأي بعض المفسرين. فالصحيح أن اللينة المقصود بها النخل على وجه العموم وهو رأي ابن جرير رحمه الله. (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) جاء في الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وَحَرَّقَ. والله سبحانه وتعالى هنا يردّ على اليهود فإنهم قالوا لرسول الله: إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟! فأنزل الله عز وجل هذه الآية رداً عليهم، أي ما قطعتم وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذن الله ومشيئته. أي لا تقولون إنك تنهى عن الفساد، هذا أمر الله النخلة التي قُطِعت قُطعِت بأمر الله والنخلة التي تُرِكت تُرِكت بأمر الله جل وعلا وهذا ردٌّ على اليهود (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) والفعل هذا هو نكاية للعدو نكاية لكم أيها اليهود مزيد من الخزي والعار (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)) ولا أعظم فسقاً منكم حينما عاهدكم النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيتم ضعفه في أُحُد نقضتم العهد فأنتم قوم غُدْر وقوم فَسَقَة لا تستحقون البقاء ولا تستحقون المجاورة. فلا تتخلّقوا بتلك الأخلاق وتقولوا إنك يا محمد تنهى عن الفساد، أنتم أصحاب أخلاق؟! أنتم الذين تدعون إلى مكارم الأخلاق؟! حاشا وكلّا، أنتم قوم غُدْر، وكأن القرآن يقول لهم: دعوكم من هذه المثاليات التي أنتم تطرحونها على نبينا صلى الله عليه وسلم على الرسول تقولون إن الله ينهى عن الفساد وأنت تنهى عن الفساد، أنتم أتيتم الشيء الأعظم حينما غدرتم بالعهد، حينما نقضتم العهد فهذا مزيد خزي وعار إخرابٌ للبيوت إخرابٌ للممتلكات.
ثم قال الله سبحانه وتعالى مبيناً أحكام ما أفاء الله على رسوله من أموالهم وديارهم فقال سبحانه (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) وفَاء هو الفيء والفيء هو الغنيمة التي أتت بدون قتال وهو باصطلاح الفقهاء ما أُخِذ من مال الكفار بحقٍّ من غير قتال يشهد لهذا قوله سبحانه وتعالى (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) الإيجاف هو سرعة السير والاجتهاد أي لم تقاتلوهم، (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) لم تسيروا إليهم بخيولكم ولا بإبلكم، الرِكاب المقصود بها الإبل هنا. لكن الله نصر عبده ونبيه بماذا؟ بالرُعب، لم تحاربوهم لم تسل دماؤكم ولذلك فهذا الفيء إنما هو للرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك قال (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)). ثم قال سبحانه وتعالى (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) هنا بدأ يبين مصارف الفيء الذي أولاً حكم بأنه لمن؟ للرسول صلى الله عليه وسلم، هنا الآن يبين مصارفه. (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) أي من أهل البلدان التي تُفتَح هكذا كل بلد يُفتح بلا قتال فحكمه حكم ديار وأموال بني النضير فهو داخلٌ في مسمى الفيء والفيء ما هو؟ هو الغنيمة التي بلا قتال. وتصور هذا مفيد كما سيأتينا عندما أطرح لكم بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع، أي (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) من تلك الديار والبلدان التي تفتح فحكمها حكم أموال بني النضير (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كم مصرف؟ خمسة مصارف، لله والرسول هذا مصرف، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، لماذا؟ قال (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) وهذه قاعدة من قواعد الإسلام في الأموال، أصلٌ من أصول الإسلام في الأموال أن الأصل في المال شموله وعمومه لكافة الناس، وهذا فيه ردٌ على من؟ على الرأسمالية التي تجعل طبقة غنية جداً وطبقة فقيرة. يقول الله عز وجل إنما حَكَمنا بهذا الحُكم (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ) أي لا يكون المال فقط يتداوله الأغنياء ولذلك حُرِّم الربا فإن من أعظم مقاصد تحريم الربا هو أن لا يكون المال دُولَةً بين الأغنياء ويُحرَم منه الفقراء.
الله سبحانه وتعالى قال (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) هل هذه الآية هي نفسها الآية التي قبلها أو تختلف؟ في الواقع أن عندنا ثلاث آيات حتى يكون عندكم تصور جيد، عندنا ثلاث آيات:
الآية الأولى وهي (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) هذه الآية الأولى
الآية الثانية (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) إلى آخره،
الآية الثالثة مرّت عليكم في سورة الأنفال (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) نفس المصارف التي ذُكِرت ذُكِرت هنا نفس المصارف التي ذكرت هنا. ولذلك أهل العلم نظروا إلى هذه الآيات الثلاث فقال بعضهم إن المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خمس الغنيمة أنتم تعلمون أن في سورة الأنفال أو الغنيمة التي تختلف عن الفيء، ما هي الغنيمة هي التي أُخِذت من أموال الكفار بقتال، كيف تُقسم؟ تقسم خمس أقسام أربعة لمن؟ للمجاهدين والخامس الذي يُسمى الخُمُس يُقسم لمن؟ لهؤلاء المصارف. الفيء وهو الذي أتى بدون قتال كيف يُصرف؟ كله لله لا يأخذ منه المجاهد شيء وإلا لا؟ يعني لا يقسم خمسة أقسام فيؤخذ أربعة للمجاهدين والخامس يقسم بهذه القسمة وإنما الفيء كله يُقسم، كيف يُقسم؟ إلى خمسة أقسام المذكورة في هذه الآية، هذا هو قول لبعض أهل العلم وأن هذه الآية الجمع بين هذه الآيات هو بهذه الطريقة التي قلت لكم وهذا هو الأقرب والله تبارك وتعالى أعلم. أن الفيء يقسم وهذه الآيات متفقة وأن آية (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) هي نفسها آية (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) فالأولى ذكرت اختصاصه للرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لا يقسم للمجاهد منه شيء لأنه قال (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) وهذا يدلنا على أن هذه نزلت بعد ماذا؟ بعد أُحُد لأن في أذهان الصحابة الحكم الشرعي حكم الغنيمة والغنيمة حصلت في بدر وكيف قسمت؟ قسمت أربعة للمجاهدين وخمس قُسم على هذه الأشياء فكان في ذهنهم هذا الشيء فلما أتوا إلى بني النضير وكانت أموالاً عظيمة بيّن الله عز وجل هنا في هذه الآية أنه لا تقسم كقسمة الغنيمة وإنما كلها لله فأخبر في الآية الأولى أنها كلها لله ورسوله والسبب قال (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) ثم في الآية التي تليها بيّن مصارف هذا الفيء، فتكون الآية الأولى في الحشر والآية الثانية متفقة، الأولى لبيان الخصوصية وسبب هذه القسمة والآية الثانية مصارف هذا الفيء. القول الثاني أن الآية الثانية معناها مختلف القول الثاني للمفسرين أن الآية الثانية معناها مختلف فهي تختلف عن الآية الأولى لكنهم قالوا إنها منسوخة بآية الأنفال من كون الخمس لمن سمي له والأخماس الأربعة لمن قاتل، ما رأيكم بهذا القول؟ هل هو صحيح وإلا ضعيف؟ يقول إنه عندنا ناسخ يقول إن الآية الثانية التي هي (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) تختلف عن الآية الأولى التي هي (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ) لكنها منسوخة بآية الأنفال فيُقسم الفيء كقسمة الغنيمة وهذا هل يمكن أن ينسخ المتقدِّم المتأخر؟ الأنفال متى حصلت؟ في بدر وقد نزلت قبل سورة الحشر يقيناً وبالتالي لا يمكن أن تنسخ آية الأنفال آية الحشر. هناك قول لابن العربي المالكي في كتابه "أحكام القرآن" ذكر كلاماً طويلاً خلاصته أن كل آية مستقلة ولها حكم خاص. يرى أن الآية (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) آية مستقلة ولها معنى خاص و(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) آية مستقلة ولها حكم خاص (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) آية مستقلة ولها حكم خاص حيث قال رحمه الله: أنها ثلاث معاني في ثلاث آيات فالأولى خالصة للرسول صلى الله عليه وسلم والثانية كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة إلى آخر كلامه. إذاً عندنا ثلاثة أقوال في هذه الآيات الصحيح منها القول الأول والله تبارك وتعالى أعلم.