قال
تعالى {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} فقيل: معناه
أنه حُفظ قبل نبوَّته منها وعُصم ولولا ذلك لأثقلت ظهره وقيل: المراد بذلك
ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتي بلَّغها وقيل: ثقل شغل سرِّك وحيرتك
وطلب شريعتك حتي شرعنا ذلك لك وقيل: معناه خفَّفنا عنك ما حملت بحفظنا لما
استحفظت وحُفظ عليك وقيل: حططنا عنك ثقل الجاهلية ومعني {أَنقَضَ ظَهْرَكَ}
أي كاد يُنقضه أو يكون الوضع عصمة الله وكفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت
ظهره أو أن يكون من ثقل الرسالة أو ما ثقل الرسالة أو ما ثقل عليه وشغل
قلبه من أمور الجاهلية وإعلام الله له بحفظ ما استحفظه من وحيه
وأما
قوله {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} فَأَمْرٌ لم يتقدم
للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيه مِنْ الله نَهْيٌ فَيُعَدُّ معصيةً ولا
عدَّهُ الله معصيةً بل لم يعدُّه أهلُ العلم معاتبةً وغلَّطوا من ذهب إلى
ذلك والصواب أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل
عليه فيه وحيٌ فكيف وقد قال الله {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} فلما
أَذِنَ لهم أعلمه الله بما لم يطَّلع عليه من سِرِّهم أنه لو لم يأذن
لقعدوا وأنه لا حرج عليه فيما فعل وليس {عَفَا} هنا بمعني غفر بل قال النبي
صلى الله عليه وسلم (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرَّقِيقِ) ولم تجب
عليهم قطّ أي: لم يلزموكم ذلك ونحوه للقشيري قال: إنما يقول (العَفْوُ لا
يكون إلاَّ عن ذنب) مَنْ لم يعرف كلام العرب قال: ومعني {عَفَا اللّهُ
عَنكَ}: لم يُلْزِمْكَ ذنباً. قال الداودي "روي أنها كانت تكرمة" قال مكي
(هو استفتاح كلام مثل: أصلحك الله وأعزَّك) وحكي السمرقندي: أن معناه:
عافاك الله
وأما قوله {عَبَسَ
وَتَوَلَّى} فليس فيه إثبات ذنب له صلى الله عليه وسلم بل إعلامُ الله لنا
أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكي فالخطاب لنا وأن الصواب أن الأولي كان – لو
كشف لك حال الرجلين – الإقبال على الأعمى وفِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم لِمَا فَعَلَ وتصدِّيه لذاك الكافر كان طاعةً لله وتبليغاً عنه
وإستئلافاً له كما شرعه الله له لا معصية ولا مخالفة وما قصَّه الله عليه
من ذلك إعلامٌ بحال الرجلين وتوهين أمر الكافر عنده والإشارة إلي الإعراض
عنه بقوله {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} قلت:ويحتمل أنه عِتَابٌ مِنْ
الحقِّ على ما فعله صلى الله عليه وسلم مما ظهر له صلاحه وترجَّح عنده
نجاحه وكان الواقع الذي قدَّر الله بخلاف ذلك
والعتاب
لا يقتضي ولا يلزم منه أن يكون بعد ذنب أو مخالفة كما هو الجاري بين الناس
في معاملتهم فقد يعاتب الأخ أخاه والحبيب حبيبه على ترك الأولي بل على ترك
الأكمل وقد يعاتب الوالد ولده على التقصير وفعل المذموم فالعتاب أوسع من
أن يكون في جهة واحدة وقيل أراد بـ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الكافر الذي كان مع
النبي صلى الله عليه وسلم قاله أبو تمام
ومن
ذلك ما ورد في حديث السيرة ومبدأ الوحي من قوله صلى الله عليه وسلم لخديجة
(لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) ليس معناه الشك فيما آتاه الله بعد رؤية
المَلَك ولكن لعله خشي ألا تحتمل قوته مقاومة المَلَك وأعباء الوحي فينخلع
قلبه أو تزهق نفسه هذا على ما ورد في الصحيح أنه قاله بعد رؤية الملك أو
يكون ذلك قبل لقائه وإعلام الله له بالنبوة لأول ما عرضت عليه من العجائب
وسلَّم عليه الحجر والشجر وبدأته المنامات والتباشير كما روي في بعض طرق
هذا الحديث أن ذلك كان أولاً في المنام ثم أري في اليقظة مثل ذلك تأنيساً
له لئلا يفاجئه الأمر مشاهدة ومشافهة فلا يحمله لأول حاله بُنْيَتُهُ
البشرية
وفي الصحيح عن عائشة (أول ما
بُديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة قالت: ثم
حُبِّبَ إليه الخلاء وقالت: إلى أن جاءه الحقُّ وهو في غار حراء)[1] وعن
ابن عباس (مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويري
الضوء سبع سنين ولا يري شيئا وثماني سنين يوحي إليه) وقد روي ابن إسحاق عن
بعضهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وذكر جواره بغار حراء – قال
(فجاءني وأنا نائم فقال: أقرأ فقلت: ما أقرأ؟) وذكر نحو حديث عائشة في
غطِّه له وإقرائه له {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قال (فانصرف عني وهببت من
نومي كأنما صورت في قلبي ولم يكن أبغض إلىَّ من شاعر أو مجنون) قلت (لا
تحدِّث عني قريش بهذا أبداً لأعمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنَّ نفسي
منها فلأقتلنَّها فبينما أنا عامد لذلك إذ سمعت منادياً ينادي من السماء:
يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فرفعت رأسي فإذا بجبريل على صورة رجل)
وذكر الحديث فقد بين في هذا أن قوله لِمَا قال وقصده لما قَصَدَ إنما كان
قبل لقاء جبريل وقبل إعلام الله له بالنبوة