قال الله تبارك: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} (1)
اشتملت الآية على جملةٍ طيِّبةٍ من الآداب الكريمة التي ينبغي أن يتحلّى بها الذَّاكر. فمن هذه الآداب:
أوّلاً: أن يكون الذِّكر في نفسه؛ لأنَّ الإخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأقربُ إلى الإجابة وأبعدُ من الرِّياء.
ثانياً: أن يكون على سبيل التضرُّع، وهو التّذلُّل والخضوع والاعتراف بالتّقصير ليتحقّق فيه ذِلَّة العبودية والانكسار لعظمة الرُّبوبيّة.
ثالثاً: أن يكون على وجه الخيفة أي الخوف من المؤاخذة على التّقصير في العمل، والخشية من الرد، وعدم القَبول، قال الله تعالى في صفة المؤمنين المسارعين في الخيرات، السّابقين لأرفع الدّرجات: {وَالَّذِينَ يُؤُتونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (2).
وقد ثبت في المسند وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنّها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء فقالت: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يُعذَّب؟ قال: 'لا، يا ابنة الصِّدّيق، ولكنَّه الرجل يصلّي ويصوم ويتصدّق ويخاف أن لا يقبل منه '(3).
رابعاً: أن يكون دون الجهر؛ لأنَّه أقرب إلى حسن التفكُّر، قال ابن كثير رحمه الله: 'ولهذا قال: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} وهكذا يُستحبُّ أن يكون الذِّكر، لا يكون نداءً وجهرًا بليغاً'(4)، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع النّاس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: 'ياأيُّها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنّ الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته' (5).
خامساً: أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفادٌ من قوله: {وَدُونَ الجَهْرِ} لأنَّ معناه: ومتكلِّمًا كلامًا دون الجهر، ويكون المرادُ بالآية الأمرَ بالجمع في الذكر بين اللسان والقلب، وقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه بقوله بعد ذلك: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} إلاّ أنّ الأوّل هو الأصحّ كما حقّق ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيرُه من أهل العلم.
وقد نظر له رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربّه أنَّه قال: 'من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم' (6) ، قال: وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه، فإنَّه جعله قسيمَ الذكر في الملأ وهو نظير قوله: {وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} ، والدليل على ذلك أنَّه قال: {بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ}، ومعلوم أنَّ ذكر الله المشروعَ بالغدوِّ والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب، مثل صلاتي الفجر والعصر، والذِّكر المشروع عقب الصلاتين، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلّمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النّهار بالغدو والآصال (7).
سادساً: أن يكون بالغدوّ والآصال، أي في البكرة والعشيِّ، فتدلُّ الآية على مزيَّة هذين الوقتين، لأنَّهما وقت سكون ودعة وتعبُّد اجتهاد، وما بينهما الغالبُ فيه الانقطاع إلى أمر المعاش، وقد ورد أنَّ عمل العبد يصعد أوّل النّهار وآخره فطلبُ الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: 'يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون وأتيناهم وهم يصلّون'(8).
سابعاً: النهي عن الغفلة عن ذكره بقوله: {وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ} (9)، أي: من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه، وفيه إشعارٌ بطلب دوام ذكره تعالى والاستمرار عليه، وأحبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُه وإن قلّ.
فهذه سبعةُ آداب عظيمة اشتملت عليها هذه الآية الكريمة، ذكرها القاسمي في كتاب محاسن التأويل (10)، وللذكر آداب كثيرة أخرى سيأتي معنا شيء منها لاحقاً إن شاء الله.
ثم إنَّ الله تبارك وتعالى لمّا حثّ على الذكر في هذه الآية ورغّب فيه وحذّر من ضدّه وهو الغفلة، ذكر عقبها في الآية التي تليها ما يقوي دواعي الذكر وينهض الهمم إليه بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (11) .
والمراد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} أي: الملائكة، وقد وصفهم الله في هذه الآية بعدم الاستكبار عن عبادة الله، وأنَّهم يسبّحونه وله يسجدون، وهذا فيه حثٌّ للمؤمنين وترغيب لهم في أن يقتدوا بهم فيما ذكر عنهم؛ لأنَّه إذا كان أولئك وهم معصومون من الذنب والخطأ هذه حالهم في التسبيح والذكر والعبادة فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.
ولهذا يقول ابن كثير رحمه الله: 'وإنما ذكرهم بهذا ليُتشبَّه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شُرِعَ لنا السجودُ ها هنا لمّا ذكر سجودهم لله عز وجل، كما جاء في الحديث: 'ألا تصفُّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها، يتمّون الصفوف الأُوَل ويتراصّون في الصف (12)، وهذه أوّل سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعيها السجود بالإجماع' (13)
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: 'ثم ذكر تعالى أنَّ له عبادًا مستديمين لعبادته، ملازمين لخدمته وهم الملائكة لتعلموا أنَّ الله لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلَّةٍ، ولا ليتعزّز بها من ذلَّةٍ، وإنما يريد نفع أنفسكم وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} من الملائكة المقرَّبين وحملة العرش والكروبيين {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربِّهم {وَيُسَبِّحُونَه} الليل والنهار لا يفترون {وَلَهُ} وحده لا شريك له {يَسْجُدُونَ} فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام وليداوموا على عبادة الملك العلاّم' (14). اهـ كلامه رحمه الله.
والمقصود أنَّ الله تبارك وتعالى لما نهى عباده عن أن يكون من الغافلين ذكر بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائكة لِيُحْتَذَى ولِيَبْعَثَ على الجدِّ في طاعة الله وذكره، والحمد لله وحده.
-----------
1 سورة الأعراف، الآية: (205).
2 سورة المؤمنون، الآية: (60).
3- المسند (6/159،205).
4- تفسير القرآن العظيم (3/544).
5- صحيح البخاري (رقم:4205)، وصحيح مسلم (رقم:2704).
6- صحيح البخاري (رقم:7405)، وصحيح مسلم (رقم:2675).
7- انظر: الفتاوى لابن تيمية (15/33 ـ 36).
8- صحيح مسلم (رقم:632).
9- سورة الأعراف، الآية: (205).
10- (7/2936،2937).
11- سورة الأعراف، الآية: (206).
12- صحيح مسلم (رقم:430).
13- تفسير القرآن العظيم (3/544).
14- تيسير الكريم الرحمن (3/68).
[عبد الرزاق البدر]