كيف وصف القرآن نفسه؟ وماذا يمكن أن نستفيد من هذه الأوصاف؟
لقد قدّم القرآن نفسه إلينا، وعرّفنا مكانته ودوره في حياتنا، بتعبيرات شتّى.. هي ليست مجرّد أسماء لمسمّى واحد.. وإنّما هي أوصاف تدلّ على معانٍ وأبعاد مختلفة، أي أنّ كلّ اسم من أسماء القرآن لفتة نظر إلى حقيقة معيّنة.
فالقرآن (نور) يبدِّد الظلمات التي تخيّم على القلب، فيُضيء عواطفه، والتي تتراكم على العقل فيفتح أفكاره، وتحيط بالروح، فينعش أشواقها، وتحدق بالحياة، فيكشف لنا طريق حركتنا فيها.
(قد جاءكُم مِن الله نور وكتاب مُبين) (المائدة/ 15).
والقرآن (بصائر) والبصيرة هي الوعي.. أو العين الداخلية التي نرى بها الحقّ والخير فنتبعهما، والباطل والشرّ فنجتنبهما، فهي كما العين الخارجية تحتاج إلى نور تبصر به.. والقرآن هو نور البصيرة.
(هذا بصائر للّناس وهدىً ورحمةً لقوم يوقنون) (الجاثية/ 20).
والقرآن (هداية) إلى الطريق الصحيح بعد ضياع وابتعاد عنه، ولا يمكن لأحدنا أن يهتدي إلى شيء في العتمة.. هل جرّبتَ أن ترى الأشياء بعد انقطاع الكهرباء وانطفاء النور؟ (ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدىً للمتّقين) (البقرة/ 2).
إنّ نور القرآن هو الذي يهدينا إلى الصراط المستقيم، فنرى الأشياء واضحة من خلاله.
والقرآن (بيِّنات) وهي عكس الغامضات المبهمات، فالبيِّن هو الشيء الواضح الجليّ، والوضوح لا يكون في ظلام، فحتّى يكون الشيء واضحاً لابدّ أن يكون في النور أو تحت النور، ولذلك كانت آيات القرآن كلّها بيِّنات، لأنّها مستنيرة بنوره، مضيئة لنا دروب الحياة.
والقرآن (شفاء) وهل تحتاج إلى الشفاء إلّّا إذا كنت تعاني المرض؟
فالقرآن شفاء لما في الصدور من غلّ وحقد وحسد وبغضاء وتعالٍ وتحاملٍ وعصبية وتجنٍّ، ولما في الحياة التي نحياها من غشّ وسرقة وزنا وربا وعدوان وشرور أخرى. وبذلك ففي القرآن صحّتنا وعافيتنا وسلامتنا الفردية والاجتماعية. (قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصُّدور) (يونس/ 57).
والقرآن (رحمة) فهو باب واسع إذا أغلقت بوجوهنا الأبواب، وظلّ نلتجئ إليه إذا لفحنا الهجير.. وحنان غامر إذا ضاقت بنا الصدور والنفوس، فالرّحمة هي ألطافٌ ظاهرةٌ وخفيّة، ونعمٌ باطنة وظاهرة. (قد جاءكم بيِّنة من ربّكم وهدىً ورحمة) (الأنعام/ 157).
والقرآن (تثبيت) فالتحديات العاتية والصعوبات الجمّة والنكبات الفظيعة والعنت الشديد، والاضطهاد المرير، والزلازل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية التي نتعرّض لها، تحتاج إلى مصل التماسك حتى لا يتصدّع كياننا أو ينهار. (كذلك لنثبِّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً) (الفرقان/ 32).
والقرآن (ذكر) والذكر يقابل الغفلة.. والغفلة شرود وسهو ولهو وانصراف عن منابع النور والرحمة والهداية، أمّا الذكر فهو أشبه شيء بإرجاع السيارة التي تخرج عن طريق إلى الطريق، فإذا غفل عنها السائق قادته إلى المخاطر التي قد تودي بحياته.
فالذكر هو يقظةُ العقل وصحوةُ القلب وانتباهةُ الروح، أي أنّ القرآن يذكّرنا دائماً أنّ هناك ربّاً يرعى، ويرحم، ويشاهد، ويسدِّد، ويؤيِّد، ويثيب ويعاقب، ويأخذ بأيدينا إلى سبل السلام والخير والسعادة. (إن هو إلّا ذكر للعالمين) (ص/ 87).
والقرآن (ذكرى) والذكرى عكس النسيان، فكثيراً ما ننسى أو يُنسينا الشيطانُ، ربّنا، وديننا، ومسؤوليتنا، والغاية من خلقنا، وتعاليم دستورنا، فتأتي آياتُ القرآن الكريم لتذكّرنا ذلك كلّه. (هدى وذكرى لأولي الألباب) (غافر/ 54).
إنّك إذا انقطعت عن صديق عزيز، فلا تتصل به هاتفياً، ولا تراسله بريدياً، ولا تسترجع ذكرياتك معه، فإنّه شيئاً فشيئاً سوف يخرج من ذاكرتك وربّما من حياتك أيضاً، وكذلك القرآن، فهو ذكرى للذاكرين، وإلّا انفصل عن حياتهم وانفصلوا عنه.
والقرآن (موعظة) بل هو أحسن المواعظ على الاطلاق، فلا يجد باحث عن الموعظة البليغة أبلغ منه.. يعظنا في الأمم التي سلفت.. وفي الموت الذي سيتجرّع كأسه كلّنا بلا استثناء، وفي الدنيا التي هي متاع قليل ودار لهو وغرور. (هذا بيان للنّاس وهدىً وموعظة للمتّقين) (آل عمران/ 138).
والقرآن (تبيان لكلّ شيء) أي الجامع لكلّ شيء، المانع من الحاجة إلى غيره، فهو النّبع الذي يرده كلّ عطاشى العلم والأخلاق والمعرفة.. فيه القضايا الأساسية واُمّهات المسائل الكبرى، ولو لم يكن كافياً لاحتجنا إلى كتاب آخر. (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) (النحل/ 89).
والقرآن (تصريف للأمثال).. والمثل حالة شبيهة بحالةٍ أخرى، ويُضرب للاعتبار وأخذ الدرس، فكما عاش الأوائل تجاربهم في ضوء ما أراد الله منهم وابتعدوا عمّا نهاهم عنه، فإنّ لنا في تلك التجارب دروساً وعبراً، وهذا هو السبب الذي يجعل القرآن يسرد علينا قصص الماضين، ويدعونا إلى التأمّل في آثارهم ومآلهم. (ولقد صرّفنا في هذا القرآن للنّاس من كلِّ مثل) (الكهف/ 54).
والقرآن (فرقان) أي معيار نميِّز به الحقّ من الباطل، والخير من الشرّ، والعدل من الظلم، والشقاء من السعادة، والعلم من الجهل، والقوّة من الضعف، والصدق من الكذب، والنجاة من الهلاك. (تبارك الّذي نزّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) (الفرقان/ 1).
ولو لم يفرّق القرآن بين النور وبين الظلام لالتبست علينا الأمور، فربّما كنّا نرى النور ظلمة والظلمة نوراً، كما هو شأن الكثيرين من الناس.
وهو فوق هذا وذاك (بشرى) للمسلمين.. وللمؤمنين بما وعدهم الله وأعدّ لهم من ثواب عظيم ونعيم مقيم. (وبشرى للمسلمين) (النحل/ 89).
هذه هي بعض خصائص القرآن، تعرّفنا عليها من خلال القرآن نفسه، فماذا نستفيد من هذه الخصائص والأوصاف؟
- كلّ صفة من صفات الكتاب الكريم عامل من عوامل الجذب والإغراء والتشجيع على الدخول إلى عالم القرآن، بل عوامله الكثيرة والمنيرة، ومعرفة ماذا هناك؟!
- إنّ تنوّع وتعدّد صفات القرآن وأسمائه إشارة إلى أنّ جمالات وكمالات القرآن كثيرة، فهو ليس شفاء وحده، ولا رحمة وحدها، بل هو كلّ ما وصف به نفسه، ممّا يستدعي اغتنام واستثمار فوائده كلّها.
- إنّ علاقة المسلمين الطويلة مع كتابهم الأوّل (القرآن) أثبتت أنّ كلّ صفة من هذه الصفات مؤكّدة وموثّقة بآلاف بل ملايين التجارب الفردية والاجتماعية، وحينما يتأكّد شيء ويتعمّق بالتجربة فذلك أكبر برهان على صدقه. وبإمكاننا نحن أيضاً أن نجرّب ذلك بأنفسنا من خلال بناء علاقة حميمة مع القرآن.