يْنَا كُنْتُ فِي الجَانِبِ الغَرْبِيِّ مِنَ الوَاحَةِ المُزْهِرَةِ أَنْحَنِي لأَغْرسَ فَسِيلَةَ فَضِيلَةٍ إِذْ بِجَلَبَةٍ تَنْبَعِثُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ ، وَلَغطٌ تَنفرُ مِنْهُ النَّفْسِ. الْتَفَتُّ مُسْتَنْكِرَاً إِلَى حَيْثُ رَأَيْتُ خَيَالَين شَاخِصَين يَحُثَّانَ الخُطَى نَحْوِي حَتَّى مَثَلا أَمَامِي.
أَمَّا الأَوَّلُ فَكَانَ طَوِيلَ القَامَةِ مُنْتَصِبَ الهَامَةِ ، شَامِخَ الجَبِينِ رَاسِخَ التَّكْوِينِ ، وَاضِحَ المَلامِحِ وَقُورَ الجَوَارِحِ ، حَسَنَ السَمْتِ قَوِيَّ الصَوْتِ ، ثَابِتَ النَظَرِ طَيِّبَ المَنْظَرِ ، وَاسِعَ الخَطْوَةِ ذَائِعَ السَّطْوَةِ. كَأَنِّي بِهِ قَدْ جَعَلَ الشُّمُوخَ إِزَارَهُ وَالكَوَاكِبَ دَارَهُ ، لا يَلْتَفِتُ إِلَى الوَرَاءِ بَلْ يُمْعِنُ النَّظَرَ فِي العَلاءِ ، تَرَى فِي وَجْهِهِ الإِبَاءَ وَالثِّقَةَ ، وَفِي كُنْهِهِ السَّنَاءَ وَالمِقَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَحَقِيرَ الجِسْمِ ذَمِيمَ الرَّسْمِ ، زَائِغَ النَّظْرَةِ كَاذِبَ العَبْرَةِ ، مَغْلُولَ اليَدِ مَعْلُولَ القَدِ ، مُرْجِفَ الحَرْفِ مُرْتَجِفَ الطَرْفِ ، نَزِقَ العِبَارَةِ ، مُحِبَّاً لِلإِثَارَةِ ، مَعْسُولَ اللِسَانِ مَرِيرَ الجَنَانِ ، فِي قَوْلِهِ مُجَادَلَةٌ وَفِي فِعْْلِهِ مُخَاتَلَةٌ. إِذَا نَظَرْتَ إِلَيهِ أَصَابَكَ النُّفُورُ ، وَإِنْ أَمْعَنْتَ تَأَمُّلَ عَيْنَيهِ رَأَيتَ فِيهِمَا نَظْرَاتِ زُورٍ.
نَفَضتُ يَدِي منْ تُرَابِ العَمَلِ ، وَأَقْبَلتُ عَلَيهمَا مُرَحِبَاً بِلا مَلَلٍ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ بَاسِقَةٍ فِي فِرْدَوسِ الوَاحَةِ. فَلَمَّا أَنْ طَعِمَا وَشَرِبَا وَذَهَبَ مَا كَانَ بِهِمَا مِنْ وَعثَاءِ السَّفَرِ قُلتُ:
- أَلا عَرَّفْتُما مَنْ أَنْتُمَا ، وَمَا شَأَنُكُمَا؟
أَخَذَ الكَبِيرُ الجِسْمِ فِيهمَا نَفَسَاً عَمِيقَاً لِيَبْدَاَ الحَدِيثَ فَإِذَا بِالحَقِيرِ الجِسْمِ يَسْبقُهُ بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ وَمُزَاحَمةٍ مُتَعمَدةٍ فَقَالَ:
- أَمَّا أَنَا فَإِنَّني بِكُلِّ فَخْرٍ ;الرُّسُوبُ بنُ مَرْسُوبٍ التَّحْتِيِّ; مِنْ قَوْمٍ يَهْتَمُونَ بِأَقْدَارِهِمْ وَيحْتَالونَ لِمَصالِحِهمْ فَهُمْ فِي هَذَا أَلَحُّ مِنْ ذُبَابَةٍ ، لا يَكُفُّونَ لِنَيْلِ ذَلِكَ عَنِ العَمَلِ مَهْمَا تَوَاضَعَتِ السُّبُلِ ؛ فَالغََايَةُ عِنْدَهُمْ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ ، وَيَرْكَبُونَ لِتَحْقِيقِ مَأْرَبِهِمْ كُلَّ حِيْلَة.
الْتَفَتُّ بِهُدُوءٍ إِلَى الضَّيفِ الآخَرِ الذِي كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الأَمَامِ وَإِلى الأَعْلَى وَفِي وَجْهِهِ طَلاقَةٌ وَسَأَلْتُهُ:
- وَأَنْتَ؟؟
- أَنَا أَيُّهَا الكَرِيمِ ;النَّجَاحُ بنُ فُلانٍ الفَوْقِيِّ; مِنْ قَوْمِ ....
قَاطَعَهُ الرُّسُوبُ بِحِدَّةٍ:
- وَمَا شَأْنُنَا بِقَومِكَ وَأَصلِكَ وَفَصْلِكَ؟؟ إِنَّهُ يُدْعَى النَّجَاحَ يَا سَيِّدِي ..
قَالَهَا بِبُغْضٍ ظَاهِرٍ وَأَرْدَفَ:
- دَعْنَا نَدْخُلُ فِي صُلْبِ مَا أَتَيْنَا لأَجْلِهِ فَلا نَنْشَغِلُ بِتَبَاهِي هَذَا المَغْرُورِ. قَدْ أَتَينَا إِلَيكَ أيُّهَا الرَّجُلُ الحَكِيم وَالكَرِيمُ وَالحَلِيمُ لِكَي ...
قَاطَعْتُهُ بِرِفْقٍ وَحَزْمٍ:
- لا تَنْشِغَلْ فِي كَيلِ كَلِمَاتِ المَدِيحِ لِي فَلَسْتُ مِمَّنْ يطْرَبُ لِذَلِكَ. وَقَدْ أَخَذْتَ حَقّكَ وَوَقْتَكَ لِتَقولَ عَنْ نِفسِكَ مَا تَشَاءُ ، فَكَيفَ تُصَادِرُ حَقَّهُ فِي أَنْ يُقَدِّمَ نَفْسَهُ بِمَا يَشَاءُ؟؟ ثُمَّ كَيفَ تُصْدِرُ عَلَيهِ حُكْمَاً بِالغُرُورِ وَالتَّبَاهِي وَهُوَ الذِي لَمْ يَفْعَلْ مَا قُلْتَ؟؟
رَدَّ الرُّسُوبُ مُحْتَدَّاً وَكَأَنَّمَا أَزْعَجَهُ قَولِي:
- بَلْ هُوَ مَغرُورٌ مَتَكَبِّرٌ. أَلا تَرَاهُ كَيْفَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي شَمَمٍ، وَيَتَحدَّثُ بِنَبرةٍ وَاثِقةٍ؟ أَلا تَرَاهُ كَيفَ ...
قَطَعْتَهُ بِهُدُوءٍ مُلْتَفِتاً عَنْهُ إِلى النَّجَاحِ وَقُلتُ لَه:
- أَكْمِلْ حَدِيثَكَ أَيُّهَا الضَّيفُ. مَنْ هُمْ قَومُكَ؟
- لا يَهُمُّ أَيُّهَا الكَرِيمُ ، قَومِي الكِرَامُ ، وَلكِنْ يَكْفِينِي فَخَرَاً أَنْ أَكُونَ نَفْسِي بِمَا أَنْجَزْتُ وَقَدَّمْتُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ.
قَاطَعَهُ الرُّسُوبُ وَهْوُ يَتَقَافَزُ غَضَبَاً:
- أَرَأَيتَ؟؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّهُ مَغْرُورٌ مُتَكَبِّرٌ ؛ لا يَرَى في الكَونِ غَيرَ نَفسِهِ وَيَشعُرُ بِأَنَّه أَكْبرُ مِنَ الآخَرِينَ. هَا أَنتَ تَرَى وَتَسْمَعُ مَا يُؤَكِدُ قَوْلِي وَأَسُوقهُ دَلِيلاً عَلَيهِ.
تَبَّسَمَ النَّجَاحُ في ثِقَةٍ مُسْتَأذِنَاً فِي الرَّدِّ عَلَيهِ:
- سُبحَانَ الله كَيفَ يَرَى هَذَا الرُّسُوبُ ثِقتِي بِقُدرَتِي وَاحتِفَالي بِحَصَادِ غَرْسِي غُرُورَاً وَتَكَبُّراً! هَلْ كَانَ إِلاهُ مَنْ يَدَّعِي بِغرُورِهِ أَنَّنِي أَرَى نَفْسِي أَكبرَ مِنْ كُلِّ مَنْ حَولِي؟؟ أَنَا لا رَيب أَشْعرُ بِي أَكبَر مِنْ قَدْرِ هَذَا الرُّسُوبِ كَثِيراً وَأَعظَم مِنْ دَوْرِهِ ، وَلَكِنَّنِي أَرَى فِي ابنِ عَمِّي ;النَّجَاحِ بنِ عِلانٍ الفَوقِيِّ; نِدَّاً وَصِنْوَاً ، وَأَرَى فِي جَارِنَا ;التَّفُوّقِ بنِ المُثَابَرَةِ الرَّاقِي; مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنِّي مَقَامَاً وَأَكبرَ قَدْرَا. هَكَذَا أَرَى الحَيَاةَ دَرَجَاتٍ كَمَا أَرَادَهَا اللهُ تَعَالى بَينَ مَخْلوقَاتِهِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
وقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
ويقول تعالى
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
بل إن الله تعالى قد فضل الرسل بعضهم على بعض كما أخبر الحق تعالى:
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ
نعم ، قد خلقنا الله سواسية ولكنه تعالى أمرنا بالعمل وهدانا سبل الصواب وجعل بيننا للتفاضل أسباباً من حازها فقد علا ، ومن قصر عنها فقد خاب واندثر.
أخذني بيانه وهو يتحدث في ثقة وثبات لا تردد منه ولا التفات ، وبهرني بقوة حجته بكلام من لا يرد له قول ولا يطعن في حكمه عدل ، فقسرت عيني عنه إلى الضيف الآخر الذي بات كأنما تخطفه الطير أو هوت الريح به من مكان سحيق ينظر حوله مطأطئ الرأس حائر الرأي زائغ النظرات حتى إذا رأي عيوني تستحث رده بلع ريقه وقال:
- أيظن هذا المغرور المتكبر أنه من يستدل بالقرآن؟ أنا سأدلك على آية تخبرك بأن مثله مغرور بضخامة جسمه ووسامة رسمه وخصيب وسمه ، ومتفاخر بعذب بيانه وفصاحة لسانه. يقول الله:
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ثم رفع رأسه المغبر في خيلاء وهو يقول:
- ما نزلت الآية إلا في أمثاله وقد حذرك الله من أمثاله فهو عدو يجب الحذر منه والابتعاد عنه ، ولا أحسب صمته هذا إلا عجزاً عن دفع هذا الأمر عنه وقد ثبتت عليه الحجة وقام الدليل.
وكأن الرسوب قد حقق الأمر وأوضع له القدر ، فكأني بجسده القزم قد تورم انتشاء وتعملق ازدراء لمقام خصمه الذي كان ينظر إليه في صمت وهدوء.
قلت:
- هل أنت منهم حقاً؟؟
تبسم ضاحكاً وقال:
- كلا أيها السيد ، وإنما هو دأب هذا الرسوب وأمثاله المخاتلة والمجادلة ، يهرفون بما لا يعرفون ، ويظلمون ولا يعترفون. أما قول الله في الآية التي ساقها فإنما تصيبه هو وأمثاله من أهل الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. أما مثلي من أهل البناء وعمارة الأرض ، ومن أصحاب الهمة والذمة فإنما قال الله تعالى فينا:
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
فكان هذا الجسم الكبير والعلم الغزير والجهد الوفير هو سبب اصطفاء للملك والتفضيل في القدر. أيها الكريم: لا يولد القدر إلا من رحم القدرة ، ولا يتقدم في الأمة إلا صاحب الهمة والذمة ، هكذا أراد الله ناموس الحياة لعمارة الأرض.
قاطعه الرسوب محتداً:
- فهل إن حباك الله بسطة في الجسم وسعة في العلم وعدل في الحكم تفرح وتفتخر كقارون الذي من قوم موسى إذ فرح بما آتاه الله وتاه على قومه حتى خسفه الله ووأد أثره. لو كان لي مثلك لكنت أكثر منك فلاحاً وأعظم صلاحاً وإصلاحا.
تبسم النجاح ضاحكاً من قوله وقال:
- ذلك من فضل ربي علي أحمده تعالى. خلقني ووهبني كل نعمة لا أفي شكرها لو قضيت العمر له ساجداً ، وإنما بالجهد تتنافس الهمم ، وبالشكر تدوم النعم. أما بسطة الجسم فكانت لك كما لي ولكني حفظت جسمي عن أذى الضلال ، وزكيته بالصلاة والصيام والمال الحلال ، وجعلته آية لله تتحدث عن عظيم خلقه ومعنى عبادته ، وقيمة العمل تقرباً وتعبدا. وأنت رتعت بجسمك في موارد الغي ، واكتفيت من العبادة بالهوى ، وانشغلت عن العمل بالنميمة والشتيمة وازدريت كل فضيلة وقيمة. وأما العلم فقد سهرت الليالي في تحصيله ، وركبت المعالي في تأويله ، وطهرته وحفظته بأن بذلته بصدق وحرص لكل طالب له وكل محتاج إليه لا أكتمه ولا أظلمه. أما أنت فسهرت الليالي في المجون ، واللهو والظنون ، وجعلت الأماني سبيل المعالي فكنت كحالم يرى أن مكانه القمر ليجد نفسه حين يصحو قابعاً في وكر الثعالب يبحث عن حيلة ليوقع الليث الهصور. وأما الحكم فقد تحريت فيه الصدق واتبعت منهج الحق فجعلت رضا الله غايتي ورضا الناس أمنيتي ؛ أنصف الحق وإن أصابني ، وأمقت الظلم وإن أفادني. أما أنت فاحتكمت دوماً لما يوافق هواك ويخدم صالحك ، واحتلت في هذا الأمر بكل كذب وزور ، وتنميق وتلفيق حتى بات العدل عندك جوراً والجور عدلاً ، والحق باطلاً ، والباطل حقاً ؛ لا يعنيك من هذا كله إلا أن تكون أنت صاحب الغنيمة ولو سلكت لها كل الطرق الوضيعة واللئيمة.
هم الرسوب بالرد عليه وقد غلت وجهه غمامة من سخرية حاقدة فأسرعت لأسال:
- هلا هدأتما وأخبرتماني ما شأنكما وماذا تريدان مني؟
أسرع الرسوب يقول بحنق وبامتعاض:
- إنما جئتك أشتكي غرور هذا النجاح وتعاليه ، وتضخم الأنا فيه ، وكنت أتوقع أن تنتصر لي منه وترى أنني أحق منه بالاهتمام والاحترام لأنني متواضع ولا أتفاخر ، وما أحببت أن تركت له المجال ليقول لك كل ما قال.
قلت:
- وأنت أيها النجاح ماذا تقول؟
- أقول بأننا جئناك لتكون علينا حكماً وقد أنشب هذا الرسوب أظفاره في أقدامي يحاول أن يشدني إلى حيث يقبع في القاع يريد أن يصعد على أكتافي بدل أن يجتهد في تسلق سفوح الصعاب وبذل الجهد لنيل المطالب. كنا قصدنا كريماً ممن يشيد بحكمته وحنكته الأنام فلما أن عيل صبره من جدل هذا الرسوب ومكابرته أرشدنا إليك لنحصد الإنصاف على يديك.
- أهلاً بكما ومرحباً ، وأسأل ربي أن أحكم بينكما بما يرضيه ويرفع راية الحق. إنني ممن لا يحكم إلا بعد أن يسمع للخصوم.
رد النجاح بأدب:
- الرسوب ليس خصمي وليس ندي ، وإنما هو علة أرجو من آفتها البرء فهل أجد عندك الدواء؟؟
أربد الرسوب وأزبد ، وقام وقعد وصرخ في وجهه:
- بل خصمك وعدوك أيها المتوهم قدره المتجبر أمره.
ثم التفت إلي وقد رسم ابتسامة غير صافية بشكل مفاجئ وقد لمعت في طرفه نظرة ابتذال وأردف غامزاً:
- ولكن هذا السيد الكريم ، الراشد الحكيم سيحكم بيننا وسترى بأنه سيحكم لي كي يثبت بأنه ذو رأي فأنا قادر على أن أذيع له صيتاً حسناً بين الناس فيشتهر ويكون أمره إلى خير.
أنا يا سيدي الفاضل لا أطيق أن أرى هذا النجاح وقد سد الآفاق ، ولوى إليه الأعناق ، وسبق بالأرزاق ، وأسعد الأذواق ، حتى بات الكل إليه تواقاً ، وبمدحه مغداقاً ، ولأمره منساقاً. لقد سرق مني مكاني حتى غدوت تحت الأقدام تدوسني دون أن تلتفت إلي باعتذار ، وتلوكني الألسن في كل درب ودار. هذا النجاح أرق ليلي ، وشوش عقلي ، وقهرني وأهلي. أستنكر منه هذا الغرور الذي يملؤه ، وهذا العمل الذي يكلؤه حتى إنه ليظن نفسه وحيد زمانه ، ونعمة الله على عباده ، وكأنني أنا لا قيمة لي ولا اعتبار ، ولا قرط لي ولا سوار. أيرضيك هذا الظلم الذي أوقعه علي هذا النجاح حتى يصيبني بالهم كل صباح ، ويقلبني ما بين ناقد ولاحٍ؟
استمعت إليه بإنصات ثم أومأت برأسي والتفت إلى النجاح
- فماذا تقول أيها النجاح؟
انتصب النجاح في جلسته ليقدم كلمته وحجته فإذا بالرسوب يقاطع بحدة وتبرم:
- يا سيدي ، وهل نحتاج منه إلى قول وقد قال فأطال وما أحسبه يجيبك إلى سؤال إلا من لسان الضلال.
قاطعته وقد رأيت منه ما لا يجوز من مصادرة الرأي واستلاب الحق:
- صه ، فإن له حقاً أن يسمع له وأن يقول ما يريد كما فعلت ، ولا يحق لك أن تكون خصماً وحكماً فتصدر الأحكام وتأمل مني أن أوافقها دون منطق أو دليل. هيا أيها النجاح قل ما ترى.
- أيها السيد ، لا قول عندي فالفعل يكفيني ، والبذل يغنيني. أنا الذي بنى الأمم ، واستحث الهمم ، وعشق القمم. تأنف نفسي الرذيلة وتسمو إلى الفضيلة ، وتعاف نفسي الضعة وتسمق بالتواضع ، مللت جهد لساني ، وأملت جهد ذراعي وبناني ، لا أرتضي بالذل ولا أشعر بالغل ، أثق في ربي وأعرف بالحق دربي ، وأثق بنفسي وأحمل سيفي وترسي ، لا أنشغل بالأحقاد ولا ألتفت لمن يضع في الخلال ويرجو لي سوء المآل ، لا أسعى للأضواء ولا أبتغي شهرة ولكنهما على آثاري بإصرار وإكبار تسعيان. أنا من يعيش في حلم كل إنسان ولا أعيش إلا في إنسان كل حلم ، وكل صاحب الصدق والبذل والمثابرة ، وأترفع عن حقد أهل الحقد والعذل والمهاترة.
الرسوب يراني عدوه ويحقد علي ، ويقضي وقته منشغلاً بي وأجدر به أن يلتفت إلى نفسه ويهتم بأمره ليحقق ما يريد من رفعة بالعمل الحثيث لا بالمكر الخبيث. أنا حقاً أشفق عليه من غول نفسه وأحقاد قلبه فالحقد داء يقتل صاحبه.
ابتسمت مستريحاً إلى قرار رأيته منصفاً وحكم حسمته عادلاً فقلت مستعيناً بالله:
- قد اشتغلت أيها النجاح بالبناء والنماء ، وعملت بجهد ورجاء ، وما احتفلت سوى بالعطاء فأدركت بهذا العلاء ، وكان في حلمك وعلمك الدواء فلا تهن ولا تحزن وأنت الأعلى.
أما أنت أيها الرسوب فقد انشغلت بغيرك ونسيت أمر نفسك ، يدفعك الحقد لتمج عذب نبعه ، وتعكر صفو دربه ، تحفر له الحفر ليقع فيها فتشعر بوقوعه انتصارك ، وتدرك في اضطرابه قرارك. لولا اشتغلت بما يرفعك ، وترفعت عما يضعك ، فاجعل بالحب مدرجك ، وبالعدل منهجك ، وبالفضل بين الناس مخرجك ، فليس أقتل للنفس من حقد يعض ، وظلم يغض، ولأواء تقض ، وعداء يستفحل.
فما إن انتهيت من حكمي حتى هاج الرسوب وماج ولوى عطفه مولياً والتفت التفاتة أخيرة ليقول:
- لا أقبل بحكمك فقد خاتلت به وجاملت ، أنا صاحب الحق ولن أجعل هذا النجاح يسحقني في كل مرة ، ولا أرى إلا أن قدري أن أكون عدو هذا النجاح.
نَظَرْتُ إِلى النَّجَاحِ فَرَأَيْتُهُ يَبْتَسِمُ في هُدُوءٍ وَرُسُوخٍ وَيَنظُرُ للأُفُقِ المُوغِلِ فِي الرُّقِي ، وَإِذْ بِالرُّسُوبِ يَعُودُ مُغْتَاظاً لِيَرشُقَ النَّجَاحِ بِحَجَرٍ أَصَابَ إِصْبعَ قَدَمِهِ فَسَالَتْ مِنْهَا قَطْرَةُ دَمٍ وَاحِدَةٌ.
وَمِنْ تَلكَ القَطْرَة نَبَتَتْ فِي الأَرْضِ زَهْرَةٌ.
أَمَّا الأَوَّلُ فَكَانَ طَوِيلَ القَامَةِ مُنْتَصِبَ الهَامَةِ ، شَامِخَ الجَبِينِ رَاسِخَ التَّكْوِينِ ، وَاضِحَ المَلامِحِ وَقُورَ الجَوَارِحِ ، حَسَنَ السَمْتِ قَوِيَّ الصَوْتِ ، ثَابِتَ النَظَرِ طَيِّبَ المَنْظَرِ ، وَاسِعَ الخَطْوَةِ ذَائِعَ السَّطْوَةِ. كَأَنِّي بِهِ قَدْ جَعَلَ الشُّمُوخَ إِزَارَهُ وَالكَوَاكِبَ دَارَهُ ، لا يَلْتَفِتُ إِلَى الوَرَاءِ بَلْ يُمْعِنُ النَّظَرَ فِي العَلاءِ ، تَرَى فِي وَجْهِهِ الإِبَاءَ وَالثِّقَةَ ، وَفِي كُنْهِهِ السَّنَاءَ وَالمِقَةَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَحَقِيرَ الجِسْمِ ذَمِيمَ الرَّسْمِ ، زَائِغَ النَّظْرَةِ كَاذِبَ العَبْرَةِ ، مَغْلُولَ اليَدِ مَعْلُولَ القَدِ ، مُرْجِفَ الحَرْفِ مُرْتَجِفَ الطَرْفِ ، نَزِقَ العِبَارَةِ ، مُحِبَّاً لِلإِثَارَةِ ، مَعْسُولَ اللِسَانِ مَرِيرَ الجَنَانِ ، فِي قَوْلِهِ مُجَادَلَةٌ وَفِي فِعْْلِهِ مُخَاتَلَةٌ. إِذَا نَظَرْتَ إِلَيهِ أَصَابَكَ النُّفُورُ ، وَإِنْ أَمْعَنْتَ تَأَمُّلَ عَيْنَيهِ رَأَيتَ فِيهِمَا نَظْرَاتِ زُورٍ.
نَفَضتُ يَدِي منْ تُرَابِ العَمَلِ ، وَأَقْبَلتُ عَلَيهمَا مُرَحِبَاً بِلا مَلَلٍ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ بَاسِقَةٍ فِي فِرْدَوسِ الوَاحَةِ. فَلَمَّا أَنْ طَعِمَا وَشَرِبَا وَذَهَبَ مَا كَانَ بِهِمَا مِنْ وَعثَاءِ السَّفَرِ قُلتُ:
- أَلا عَرَّفْتُما مَنْ أَنْتُمَا ، وَمَا شَأَنُكُمَا؟
أَخَذَ الكَبِيرُ الجِسْمِ فِيهمَا نَفَسَاً عَمِيقَاً لِيَبْدَاَ الحَدِيثَ فَإِذَا بِالحَقِيرِ الجِسْمِ يَسْبقُهُ بِنَبْرَةٍ حَادَّةٍ وَمُزَاحَمةٍ مُتَعمَدةٍ فَقَالَ:
- أَمَّا أَنَا فَإِنَّني بِكُلِّ فَخْرٍ ;الرُّسُوبُ بنُ مَرْسُوبٍ التَّحْتِيِّ; مِنْ قَوْمٍ يَهْتَمُونَ بِأَقْدَارِهِمْ وَيحْتَالونَ لِمَصالِحِهمْ فَهُمْ فِي هَذَا أَلَحُّ مِنْ ذُبَابَةٍ ، لا يَكُفُّونَ لِنَيْلِ ذَلِكَ عَنِ العَمَلِ مَهْمَا تَوَاضَعَتِ السُّبُلِ ؛ فَالغََايَةُ عِنْدَهُمْ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ ، وَيَرْكَبُونَ لِتَحْقِيقِ مَأْرَبِهِمْ كُلَّ حِيْلَة.
الْتَفَتُّ بِهُدُوءٍ إِلَى الضَّيفِ الآخَرِ الذِي كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الأَمَامِ وَإِلى الأَعْلَى وَفِي وَجْهِهِ طَلاقَةٌ وَسَأَلْتُهُ:
- وَأَنْتَ؟؟
- أَنَا أَيُّهَا الكَرِيمِ ;النَّجَاحُ بنُ فُلانٍ الفَوْقِيِّ; مِنْ قَوْمِ ....
قَاطَعَهُ الرُّسُوبُ بِحِدَّةٍ:
- وَمَا شَأْنُنَا بِقَومِكَ وَأَصلِكَ وَفَصْلِكَ؟؟ إِنَّهُ يُدْعَى النَّجَاحَ يَا سَيِّدِي ..
قَالَهَا بِبُغْضٍ ظَاهِرٍ وَأَرْدَفَ:
- دَعْنَا نَدْخُلُ فِي صُلْبِ مَا أَتَيْنَا لأَجْلِهِ فَلا نَنْشَغِلُ بِتَبَاهِي هَذَا المَغْرُورِ. قَدْ أَتَينَا إِلَيكَ أيُّهَا الرَّجُلُ الحَكِيم وَالكَرِيمُ وَالحَلِيمُ لِكَي ...
قَاطَعْتُهُ بِرِفْقٍ وَحَزْمٍ:
- لا تَنْشِغَلْ فِي كَيلِ كَلِمَاتِ المَدِيحِ لِي فَلَسْتُ مِمَّنْ يطْرَبُ لِذَلِكَ. وَقَدْ أَخَذْتَ حَقّكَ وَوَقْتَكَ لِتَقولَ عَنْ نِفسِكَ مَا تَشَاءُ ، فَكَيفَ تُصَادِرُ حَقَّهُ فِي أَنْ يُقَدِّمَ نَفْسَهُ بِمَا يَشَاءُ؟؟ ثُمَّ كَيفَ تُصْدِرُ عَلَيهِ حُكْمَاً بِالغُرُورِ وَالتَّبَاهِي وَهُوَ الذِي لَمْ يَفْعَلْ مَا قُلْتَ؟؟
رَدَّ الرُّسُوبُ مُحْتَدَّاً وَكَأَنَّمَا أَزْعَجَهُ قَولِي:
- بَلْ هُوَ مَغرُورٌ مَتَكَبِّرٌ. أَلا تَرَاهُ كَيْفَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي شَمَمٍ، وَيَتَحدَّثُ بِنَبرةٍ وَاثِقةٍ؟ أَلا تَرَاهُ كَيفَ ...
قَطَعْتَهُ بِهُدُوءٍ مُلْتَفِتاً عَنْهُ إِلى النَّجَاحِ وَقُلتُ لَه:
- أَكْمِلْ حَدِيثَكَ أَيُّهَا الضَّيفُ. مَنْ هُمْ قَومُكَ؟
- لا يَهُمُّ أَيُّهَا الكَرِيمُ ، قَومِي الكِرَامُ ، وَلكِنْ يَكْفِينِي فَخَرَاً أَنْ أَكُونَ نَفْسِي بِمَا أَنْجَزْتُ وَقَدَّمْتُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ.
قَاطَعَهُ الرُّسُوبُ وَهْوُ يَتَقَافَزُ غَضَبَاً:
- أَرَأَيتَ؟؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّهُ مَغْرُورٌ مُتَكَبِّرٌ ؛ لا يَرَى في الكَونِ غَيرَ نَفسِهِ وَيَشعُرُ بِأَنَّه أَكْبرُ مِنَ الآخَرِينَ. هَا أَنتَ تَرَى وَتَسْمَعُ مَا يُؤَكِدُ قَوْلِي وَأَسُوقهُ دَلِيلاً عَلَيهِ.
تَبَّسَمَ النَّجَاحُ في ثِقَةٍ مُسْتَأذِنَاً فِي الرَّدِّ عَلَيهِ:
- سُبحَانَ الله كَيفَ يَرَى هَذَا الرُّسُوبُ ثِقتِي بِقُدرَتِي وَاحتِفَالي بِحَصَادِ غَرْسِي غُرُورَاً وَتَكَبُّراً! هَلْ كَانَ إِلاهُ مَنْ يَدَّعِي بِغرُورِهِ أَنَّنِي أَرَى نَفْسِي أَكبرَ مِنْ كُلِّ مَنْ حَولِي؟؟ أَنَا لا رَيب أَشْعرُ بِي أَكبَر مِنْ قَدْرِ هَذَا الرُّسُوبِ كَثِيراً وَأَعظَم مِنْ دَوْرِهِ ، وَلَكِنَّنِي أَرَى فِي ابنِ عَمِّي ;النَّجَاحِ بنِ عِلانٍ الفَوقِيِّ; نِدَّاً وَصِنْوَاً ، وَأَرَى فِي جَارِنَا ;التَّفُوّقِ بنِ المُثَابَرَةِ الرَّاقِي; مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنِّي مَقَامَاً وَأَكبرَ قَدْرَا. هَكَذَا أَرَى الحَيَاةَ دَرَجَاتٍ كَمَا أَرَادَهَا اللهُ تَعَالى بَينَ مَخْلوقَاتِهِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
وقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
ويقول تعالى
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
بل إن الله تعالى قد فضل الرسل بعضهم على بعض كما أخبر الحق تعالى:
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ
نعم ، قد خلقنا الله سواسية ولكنه تعالى أمرنا بالعمل وهدانا سبل الصواب وجعل بيننا للتفاضل أسباباً من حازها فقد علا ، ومن قصر عنها فقد خاب واندثر.
أخذني بيانه وهو يتحدث في ثقة وثبات لا تردد منه ولا التفات ، وبهرني بقوة حجته بكلام من لا يرد له قول ولا يطعن في حكمه عدل ، فقسرت عيني عنه إلى الضيف الآخر الذي بات كأنما تخطفه الطير أو هوت الريح به من مكان سحيق ينظر حوله مطأطئ الرأس حائر الرأي زائغ النظرات حتى إذا رأي عيوني تستحث رده بلع ريقه وقال:
- أيظن هذا المغرور المتكبر أنه من يستدل بالقرآن؟ أنا سأدلك على آية تخبرك بأن مثله مغرور بضخامة جسمه ووسامة رسمه وخصيب وسمه ، ومتفاخر بعذب بيانه وفصاحة لسانه. يقول الله:
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ثم رفع رأسه المغبر في خيلاء وهو يقول:
- ما نزلت الآية إلا في أمثاله وقد حذرك الله من أمثاله فهو عدو يجب الحذر منه والابتعاد عنه ، ولا أحسب صمته هذا إلا عجزاً عن دفع هذا الأمر عنه وقد ثبتت عليه الحجة وقام الدليل.
وكأن الرسوب قد حقق الأمر وأوضع له القدر ، فكأني بجسده القزم قد تورم انتشاء وتعملق ازدراء لمقام خصمه الذي كان ينظر إليه في صمت وهدوء.
قلت:
- هل أنت منهم حقاً؟؟
تبسم ضاحكاً وقال:
- كلا أيها السيد ، وإنما هو دأب هذا الرسوب وأمثاله المخاتلة والمجادلة ، يهرفون بما لا يعرفون ، ويظلمون ولا يعترفون. أما قول الله في الآية التي ساقها فإنما تصيبه هو وأمثاله من أهل الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. أما مثلي من أهل البناء وعمارة الأرض ، ومن أصحاب الهمة والذمة فإنما قال الله تعالى فينا:
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
فكان هذا الجسم الكبير والعلم الغزير والجهد الوفير هو سبب اصطفاء للملك والتفضيل في القدر. أيها الكريم: لا يولد القدر إلا من رحم القدرة ، ولا يتقدم في الأمة إلا صاحب الهمة والذمة ، هكذا أراد الله ناموس الحياة لعمارة الأرض.
قاطعه الرسوب محتداً:
- فهل إن حباك الله بسطة في الجسم وسعة في العلم وعدل في الحكم تفرح وتفتخر كقارون الذي من قوم موسى إذ فرح بما آتاه الله وتاه على قومه حتى خسفه الله ووأد أثره. لو كان لي مثلك لكنت أكثر منك فلاحاً وأعظم صلاحاً وإصلاحا.
تبسم النجاح ضاحكاً من قوله وقال:
- ذلك من فضل ربي علي أحمده تعالى. خلقني ووهبني كل نعمة لا أفي شكرها لو قضيت العمر له ساجداً ، وإنما بالجهد تتنافس الهمم ، وبالشكر تدوم النعم. أما بسطة الجسم فكانت لك كما لي ولكني حفظت جسمي عن أذى الضلال ، وزكيته بالصلاة والصيام والمال الحلال ، وجعلته آية لله تتحدث عن عظيم خلقه ومعنى عبادته ، وقيمة العمل تقرباً وتعبدا. وأنت رتعت بجسمك في موارد الغي ، واكتفيت من العبادة بالهوى ، وانشغلت عن العمل بالنميمة والشتيمة وازدريت كل فضيلة وقيمة. وأما العلم فقد سهرت الليالي في تحصيله ، وركبت المعالي في تأويله ، وطهرته وحفظته بأن بذلته بصدق وحرص لكل طالب له وكل محتاج إليه لا أكتمه ولا أظلمه. أما أنت فسهرت الليالي في المجون ، واللهو والظنون ، وجعلت الأماني سبيل المعالي فكنت كحالم يرى أن مكانه القمر ليجد نفسه حين يصحو قابعاً في وكر الثعالب يبحث عن حيلة ليوقع الليث الهصور. وأما الحكم فقد تحريت فيه الصدق واتبعت منهج الحق فجعلت رضا الله غايتي ورضا الناس أمنيتي ؛ أنصف الحق وإن أصابني ، وأمقت الظلم وإن أفادني. أما أنت فاحتكمت دوماً لما يوافق هواك ويخدم صالحك ، واحتلت في هذا الأمر بكل كذب وزور ، وتنميق وتلفيق حتى بات العدل عندك جوراً والجور عدلاً ، والحق باطلاً ، والباطل حقاً ؛ لا يعنيك من هذا كله إلا أن تكون أنت صاحب الغنيمة ولو سلكت لها كل الطرق الوضيعة واللئيمة.
هم الرسوب بالرد عليه وقد غلت وجهه غمامة من سخرية حاقدة فأسرعت لأسال:
- هلا هدأتما وأخبرتماني ما شأنكما وماذا تريدان مني؟
أسرع الرسوب يقول بحنق وبامتعاض:
- إنما جئتك أشتكي غرور هذا النجاح وتعاليه ، وتضخم الأنا فيه ، وكنت أتوقع أن تنتصر لي منه وترى أنني أحق منه بالاهتمام والاحترام لأنني متواضع ولا أتفاخر ، وما أحببت أن تركت له المجال ليقول لك كل ما قال.
قلت:
- وأنت أيها النجاح ماذا تقول؟
- أقول بأننا جئناك لتكون علينا حكماً وقد أنشب هذا الرسوب أظفاره في أقدامي يحاول أن يشدني إلى حيث يقبع في القاع يريد أن يصعد على أكتافي بدل أن يجتهد في تسلق سفوح الصعاب وبذل الجهد لنيل المطالب. كنا قصدنا كريماً ممن يشيد بحكمته وحنكته الأنام فلما أن عيل صبره من جدل هذا الرسوب ومكابرته أرشدنا إليك لنحصد الإنصاف على يديك.
- أهلاً بكما ومرحباً ، وأسأل ربي أن أحكم بينكما بما يرضيه ويرفع راية الحق. إنني ممن لا يحكم إلا بعد أن يسمع للخصوم.
رد النجاح بأدب:
- الرسوب ليس خصمي وليس ندي ، وإنما هو علة أرجو من آفتها البرء فهل أجد عندك الدواء؟؟
أربد الرسوب وأزبد ، وقام وقعد وصرخ في وجهه:
- بل خصمك وعدوك أيها المتوهم قدره المتجبر أمره.
ثم التفت إلي وقد رسم ابتسامة غير صافية بشكل مفاجئ وقد لمعت في طرفه نظرة ابتذال وأردف غامزاً:
- ولكن هذا السيد الكريم ، الراشد الحكيم سيحكم بيننا وسترى بأنه سيحكم لي كي يثبت بأنه ذو رأي فأنا قادر على أن أذيع له صيتاً حسناً بين الناس فيشتهر ويكون أمره إلى خير.
أنا يا سيدي الفاضل لا أطيق أن أرى هذا النجاح وقد سد الآفاق ، ولوى إليه الأعناق ، وسبق بالأرزاق ، وأسعد الأذواق ، حتى بات الكل إليه تواقاً ، وبمدحه مغداقاً ، ولأمره منساقاً. لقد سرق مني مكاني حتى غدوت تحت الأقدام تدوسني دون أن تلتفت إلي باعتذار ، وتلوكني الألسن في كل درب ودار. هذا النجاح أرق ليلي ، وشوش عقلي ، وقهرني وأهلي. أستنكر منه هذا الغرور الذي يملؤه ، وهذا العمل الذي يكلؤه حتى إنه ليظن نفسه وحيد زمانه ، ونعمة الله على عباده ، وكأنني أنا لا قيمة لي ولا اعتبار ، ولا قرط لي ولا سوار. أيرضيك هذا الظلم الذي أوقعه علي هذا النجاح حتى يصيبني بالهم كل صباح ، ويقلبني ما بين ناقد ولاحٍ؟
استمعت إليه بإنصات ثم أومأت برأسي والتفت إلى النجاح
- فماذا تقول أيها النجاح؟
انتصب النجاح في جلسته ليقدم كلمته وحجته فإذا بالرسوب يقاطع بحدة وتبرم:
- يا سيدي ، وهل نحتاج منه إلى قول وقد قال فأطال وما أحسبه يجيبك إلى سؤال إلا من لسان الضلال.
قاطعته وقد رأيت منه ما لا يجوز من مصادرة الرأي واستلاب الحق:
- صه ، فإن له حقاً أن يسمع له وأن يقول ما يريد كما فعلت ، ولا يحق لك أن تكون خصماً وحكماً فتصدر الأحكام وتأمل مني أن أوافقها دون منطق أو دليل. هيا أيها النجاح قل ما ترى.
- أيها السيد ، لا قول عندي فالفعل يكفيني ، والبذل يغنيني. أنا الذي بنى الأمم ، واستحث الهمم ، وعشق القمم. تأنف نفسي الرذيلة وتسمو إلى الفضيلة ، وتعاف نفسي الضعة وتسمق بالتواضع ، مللت جهد لساني ، وأملت جهد ذراعي وبناني ، لا أرتضي بالذل ولا أشعر بالغل ، أثق في ربي وأعرف بالحق دربي ، وأثق بنفسي وأحمل سيفي وترسي ، لا أنشغل بالأحقاد ولا ألتفت لمن يضع في الخلال ويرجو لي سوء المآل ، لا أسعى للأضواء ولا أبتغي شهرة ولكنهما على آثاري بإصرار وإكبار تسعيان. أنا من يعيش في حلم كل إنسان ولا أعيش إلا في إنسان كل حلم ، وكل صاحب الصدق والبذل والمثابرة ، وأترفع عن حقد أهل الحقد والعذل والمهاترة.
الرسوب يراني عدوه ويحقد علي ، ويقضي وقته منشغلاً بي وأجدر به أن يلتفت إلى نفسه ويهتم بأمره ليحقق ما يريد من رفعة بالعمل الحثيث لا بالمكر الخبيث. أنا حقاً أشفق عليه من غول نفسه وأحقاد قلبه فالحقد داء يقتل صاحبه.
ابتسمت مستريحاً إلى قرار رأيته منصفاً وحكم حسمته عادلاً فقلت مستعيناً بالله:
- قد اشتغلت أيها النجاح بالبناء والنماء ، وعملت بجهد ورجاء ، وما احتفلت سوى بالعطاء فأدركت بهذا العلاء ، وكان في حلمك وعلمك الدواء فلا تهن ولا تحزن وأنت الأعلى.
أما أنت أيها الرسوب فقد انشغلت بغيرك ونسيت أمر نفسك ، يدفعك الحقد لتمج عذب نبعه ، وتعكر صفو دربه ، تحفر له الحفر ليقع فيها فتشعر بوقوعه انتصارك ، وتدرك في اضطرابه قرارك. لولا اشتغلت بما يرفعك ، وترفعت عما يضعك ، فاجعل بالحب مدرجك ، وبالعدل منهجك ، وبالفضل بين الناس مخرجك ، فليس أقتل للنفس من حقد يعض ، وظلم يغض، ولأواء تقض ، وعداء يستفحل.
فما إن انتهيت من حكمي حتى هاج الرسوب وماج ولوى عطفه مولياً والتفت التفاتة أخيرة ليقول:
- لا أقبل بحكمك فقد خاتلت به وجاملت ، أنا صاحب الحق ولن أجعل هذا النجاح يسحقني في كل مرة ، ولا أرى إلا أن قدري أن أكون عدو هذا النجاح.
نَظَرْتُ إِلى النَّجَاحِ فَرَأَيْتُهُ يَبْتَسِمُ في هُدُوءٍ وَرُسُوخٍ وَيَنظُرُ للأُفُقِ المُوغِلِ فِي الرُّقِي ، وَإِذْ بِالرُّسُوبِ يَعُودُ مُغْتَاظاً لِيَرشُقَ النَّجَاحِ بِحَجَرٍ أَصَابَ إِصْبعَ قَدَمِهِ فَسَالَتْ مِنْهَا قَطْرَةُ دَمٍ وَاحِدَةٌ.
وَمِنْ تَلكَ القَطْرَة نَبَتَتْ فِي الأَرْضِ زَهْرَةٌ.