ختــــاه، يا من تريدين التقرُّب إلى ربِّك عزَّ وجلَّ بأعظم القربـــات وأفضل الطاعات .. يا من ترغبين في التخلُّص من أخطر عيوبك وأشد الأمراض على نفسك .. إن كنتِ صادقة في رغبتك لإزالة تلك القواطع التي تحول بينك وبين ربِّك تبـــارك وتعالى، لن تكتفي ببعض العبادات في مواسم الطاعات ثم تعودين بعدها لمألوفاتِك وعاداتِك ..
بل ستنفذي كلام أمك عائشة ، التي وصفت أفضل العبادة، فقالت "إنكم تدعون أفضل العبادة: التواضع" [حلية الأولياء (1:221)]
فأقرب طريق إلى الرحمن أن تنكسري وتتواضعي وتذلي بين يدي ربِّـــك تبـــارك وتعالى ..
كان أحمد الرفاعي يقول "أقرب الطريق الانكسار والذل والافتقار، تُعظِّم أمر الله، وتشفق على خلق الله، وتقتدي بسنة رسول الله " [سير أعلام النبلاء (41:68)] ..
فقد كان من دعائه "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة"[رواه الترمذي وصححه الألباني] .. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى المسكنة "الْمِسْكِينُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ لِلَّهِ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ عَدَمَ الْمَالِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيرًا مِنْ الْمَالِ وَهُوَ جَبَّارٌ" [مجموع الفتاوى (18:326)] ..
والله سبحانه وتعالى يحب المتواضعين .. قال تعالى {.. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ..}[المائدة: 54]
وقال رسول الله "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"[رواه مسلم]
ومن ازداد تواضعًا زاد رفعة .. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ".. وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" [رواه مسلم]
فمن يعبد الرحمن بحق، لا يرى لنفسه شيء ..
ومن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب، وليس له من العبادة حظ،،
الوصفة العملية للتواضع والافتقــار
بنـــا نتواصى باثنى عشرة خطوة عملية؛ بها تنكسر قلوبنا ونتعلَّم التواضع فنتقرَّب إلى الله بأعظم العبــــادة ..
1) تواضعي لدينك، بألا تعارضي الأدلة الشرعية بعقلك ..
فينبغي أن تنصاعي لأوامر الله ورسوله ، ولا تعترضي على أوامر الشرع وتبرري ذلك يحجج واهية.
2) أن لا تعتدي برأيك وتكرهي أن يمشي أحدًا خلفك ..
عن عبد الله بن عمرو قال: ما رؤي رسول الله يأكل متكئًا قط، ولا يطأ عقبه رجلان. [رواه أبو داوود وصححه الألباني] .. وكان أبو الدرداء يقول "لايزال العبد يزداد من الله تعالى بُعدًا كلما مُشيَ خلفه" [حلية الأولياء (1:117)]
وليس النهي عن سير الناس خلفك في الطريق فقط .. بل عليكِ ألا تتطلعي للصدارة دومًا وإلى أن تصيري محور الكلام في المجلس، وأن لا تسعي أن يكون رأيك هو الذي يُنفذ في كل حين.
3) اذهبي إلى النــاس ولا تنتظري دائمًا مجيئهم إليـــكِ ..
روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم أن تعال فحدثنا، فجاء سفيان فقيل له: يا أبا إسحاق، تبعث إليه بمثل هذا!. فقال: أردت أن أنظر كيف تواضعه.[إحيـــاء علوم الدين (3:354)]
وعليكِ أن تُجيبي الدعوة ولو إلى أيسر شيء .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ النَّبِيِّ قَالَ "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ"[صحيح البخاري]
4) لا تستنكفي من جلوس أي أحد إلى جوارِك ..
حتى لو جلست بجوارك أخت لا تستطيعين تَحَمُّلها، فعليكِ أن تجاهدي نفسك ولا تتكبري لجلوسها إلى جوارك.
قال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه، فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي "لِمَ تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلاً منكم شرًا مني؟!" [إحياء علوم الدين (3:354)]
5) لا تأنفي من حمل حاجيــاتِك بنفسك ..
قال علي "لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله".. وعن الأصبغ بن نباتة قال: كأني أنظر إلى عمر معلقًا لحمًا في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله. [إحياء علوم الدين (3:355)]
فينبغي ألا تأنفي عن حمل حاجياتك بنفسك، وألا تطلبي من يتولى حملها بدلاً منكِ.
6) أن تجلسي إلى المساكيـــن، فهذا يُبلغِك حـــال المتواضعين ..
وهذا سيد شباب أهل الجنة، يجاهد نفسه وينفي عنها الكِبر بجلوسه للأكل مع المساكين .. عن الحسين بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسرا بينهم وهم يأكلون، فقالوا: الغذاء يا أبا عبد الله، فنزل وجلس معهم وقال: {.. إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}[النحل: 23]، فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا.[تفسير القرطبي (10:95)]
7) أن تعرفي قدر نفسك، فلا تجعلي لنفسك قدرًا مع الصالحين ..
عندما يمتنَّ الله عليكِ بقدر من العلم وأو يوفقك لبعض الطاعات، لا تتكبري على أحد بتلك المنن وتظني أنك بذلك أفضل من غيرك ..
فعزتك باصطفاء الله لكِ بنعمة الإسلام والإيمان ..
فينبغي أن تتعززي عن سفاسف أمور الدنيا، وتتواضعي بألا تعرفي قدر نفسِك ودائمًا ترددي:
أنا من ذنوبي على يقين ومن ذنوب الناس على شك،،
8) التواضع لأقرانك ومن هم دونــــك ..
لا تتكبري على من هن في مثل عمرك أو أقل منكِ قدرًا، ولا تنظري إلى نِعَم الله التي ينعم بها على غيرك .. فلا تنظري إلى قريناتِك بعين الازدراء، ولسان حالك يقول { .. أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ..}[الأنعام: 53] .. فهذا حسد خفي ينشأ عن الكِبر.
9) ألا يعظُّم في عينك عملك ..
إن عملتِ خيراً أو تقربتِ إلى الله بطاعة، لا تُعجبي بعملك .. فإن العمل لا يقبله الله إلا إذا تحققت أركانه؛ من الإخلاص والمتابعة للنبي محمد .. عَنْ فَضَالَةَ، قَالَ: "لأَنْ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَقَبَّلَ مِنِّي مِثْقَالَ حَبَّةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا، لأَنَّهُ تَعَالَى يَقُوْلُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِيْنَ}[المَائِدَةُ: 30]" [سير أعلام النبلاء (5:111)]
لا تنظري إلى عملك، فهذا ليس حال الفقيرة إلى ربها،،
10) تحملي أذى النـــاس ..
فإذا أُذيتي من شخصٍ ما أو أُخِذَ من حقك، كوني متسامحة واعفي عمن أذاكي .. { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى: 40]
وأخيرًا: عليكِ أن تكثري من السجود والدعـــاء .. لأن السجود يُمثل الذل والانكسار إلى الله تبارك وتعالى، وتدعي ربِّك أن يسلل سخــائم صدرك ..
سُئِلَ يُوْسُفُ بنُ أَسْبَاطٍ: مَا غَايَةُ التَّوَاضُعِ؟
قَالَ: أَنْ لاَ تَلقَى أَحَداً إِلاَّ رَأَيْتَ لَهُ الفَضْلَ عَلَيْكَ.
م/ن